الوسم:عدنان المناوس

حفّار قبور القرية الوحيد!


((إذنْ…مالذي سوف أفعلهُ لو بقيتُ وحيداً في آخر العمر؟!))
.
لا أدري كيفَ التمعَ هذا السؤالُ فجأةً كالبرق في خاطري فأوقف الزمنَ في عينيّ لحظةً ممتدةً بامتداد الأبدية وأنا أتسامرُ مع بعض الأصدقاء في مقهى (كريسبي كريم) الكائن في البلدة المجاورة لقريتي الوادعة!
كنتُ أحدّق في قهوة أحدهم عندما تلاشتْ صورتها شيئاً فشيئاً وحلّت مكانها صورة ذلك العجوز الذي التقيتهُ ذات يوم ظهراً و شمسُ الصيف الحارقة تغسل جبينه بالعرق !
.
كان جالساً وحيداً ..مُعدماً..على مصطبةٍ في (دروازة) القرية التي كان يومياً يلتقي في ساحتها بأصدقائه الذين حملهم واحداً واحداً إلى قبورهم قبل أن يُثقل رأسهُ الفقدُ ويُصاب (بجلطةٍ) أقعدته عن حفر القبور….!
العمل الذي كان يُتقنهُ في حضرة الموت!
.
كان جالساً وحيداً…عيناه شاخصتان في الفراغ، ترى ولا ترى ..! تجاعيدُ وجههِ الكثيرة بعدد أصدقائهِ الذين كلّما رحلَ واحدٌ منهم حفرَ على وجهه أخدودَ حزنٍ تجري فيه دموعه المالحة! حتى لم يبقَ مكانٌ في وجهه لأخدود آخر..!!
.
أوقفتُ سيارتي ونزلت للسلام عليه، قبّلت رأسهُ وكأنني أقبّل أوجاعهُ واحداً واحداً، وذكرياته التي لا تشيخ مع المرحوم جدّي (عبدالله) الذي كان من أقرب الأصدقاء إليه..
صديقُ العمر والسفر والشاي والسجائر..!!

بالكاد تعرّف على ملامحي، سألني ليتأكّد…(انت عدنان يبه)..؟! جاوبته بالتأكيد، وعيناي تتفحصّان آثار الزمن المرّ على وجهه وذاكرته، وروحه التي كانت تنشر الفرح والضحك بنكاته التي كانت تقاوم تقدّم قطارَ عمره لمحطّات الكهولة…!
حتى اجتاحهُ الزمنُ بجيشه الجرّار وتركهُ قلعةً مدمّرةً، تحاول أن تحافظ على آخر حجرٍ سليمٍ فيها!
.
ودّعتهُ وحشرجةٌ مسنونةٌ كسكينةٍ حادّة تكاد تقطّع حبالي الصوتية، ودمعٌ مثقلٌ بالذكريات الطفولية معه يكاد يفيض على وجنتيّ!
.
أيقظتني من هذه الذكرى الموجعة دمعةٌ فرّت من احدى مقلتيّ مثل عصفورةٍ فرّت من قفص متآكل واستقرّت على ظهر كفّي اليُسرى…رفعتُ رأسي أتفحصُ المكان والزمان من حولي…ولا أدري كذلك كيفَ تراءى لي أنّ ملامحَ المكان والزمان تغيّرت…!
النادلُ الذي ابتسمَ في وجهي ابتسامةً شاحبة وكأنه كان يقرأ أفكاري رأيتُه وكأنه قد كبُر أربعينَ سنة في طرفة عين..! وأنا …..
كنتُ وحيداً….!!
نعم…
كنتُ وحيداً في هذا المقهى مثل ذلك الرجل العجوز…أسترجعُ ملامحَ الأصدقاء الذين كانوا هنا قبل هذه الذكرى….وقلبي يُرددُ ما قاله محمود درويش ذات فقد…:
((
إنْ أعادوا لكَ المقاهي القديمة

من يُعيدُ لك الرفاق..؟!!))
.

(كُتب النص عام 2019، وانتقل الحاج (صالح المخيدير ) إلى رحمة ربه عام 2021)

تساؤلات في حضرة “الترجمة”


 

 

الترجمة بمنظورها الواسع هي جسرٌ مهمٌ يربط بين الشعوب المختلفة وثقافاتها عن طريق نقل المعارف المختلفة بينها. وكنتيجة لذلك يؤثر هذا النقل المعرفي على الرؤية الكونية بمختلف تفرعاتها العلمية, الأيديولوجية والدينية على حضارات وثقافات الشعوب المختلفة على مستوى العقل الجمعي و الفردي على حد سواء. وأثر الفلسفة اليونانية على الفلسفة الإسلامية نتيجة الترجمات التي قام بها الكندي والفارابي وابن رشد لأفكار “أفلاطون” و “وأرسطو” كما تشير بذلك بعض الدراسات مثالٌ واحدٌ من أمثلة يصعب حصرها.  

.

أما إذا ما تطرقنا للترجمة الأدبية, فأول ما يتبادر إلى الذهن المثَل المتداول ذو الجذور الإيطالية والقائل بأن “الترجمة خائنة” وتكاد هذه العبارة تتمزق أطرافها من فرط الشد و الجذب بين المتجادلين في حضرتها بين مؤيد ومعارض وحيادي. وهذا أمرٌ شرعي مادام النص الأدبي ينبع من روح الكاتب المحملة بكل ما يختلج في لاوعيهِ من إرثٍ ثقافي خاص وذاكرة لا تخص أحدا سواه.!

 

ولكن عند قولنا أن فعل الترجمة هو فعل “خيانة” فما هو المعيار الصلب الذي يستند عليه قولنا هذا؟! ما دام النص الأصلي في الغالب غائبٌ عنّا لغة كعتبة أولى للنص, بالإضافة إلى عدم الإلمام بالإرث الثقافي والحضاري لكاتبه؟! أليس لكل لغة خصائص تميّزها عن باقي اللغات الأخرى؟! وبالتالي أليس معيارنا في هذا الحكم نابعٌ من هذه الخصائص التي نتكئ عليها في لغتنا الأم بشكلٍ لاواعي بكل ما تحمل هذه المعايير من أبعاد جمالية؟! أي أننا في الحقيقة كلما وجدنا النص المترجم يقترب من روحنا الأدبية وأبعادها الجمالية في اللغة, كلما حكمنا على الترجمة بأنها أمينةٌ للنص الأصلي بقدرٍ كبير؟! وبالتالي هل يصح لنا افتراض أنه كلما اقترب النص من ملامسة هذه الأبعاد الجمالية في لغتنا ابتعد أكثر عن النص الأصلي بكل خصائص لغته المتعددة؟! إذن هل يمكن لنا أن نعتبر هذه خيانة؟! ومن هذا الباب ألا تمثّل الترجمة كتابةً إبداعية موازية للنص الأصلي وليست مولودةً منه؟! ثم أليس من الصعوبة بمكان أصلا القبض على روح النص الأدبي مهما حاول المترجم ملاحقة النص وكاتبه مستعينا بذخيرة معرفية باللغة الأخرى وجانب لا بأس به من حياة الكاتب؟! ألا يكون هنا المترجم كمن يلاحق سرابا في بيداء لا تخوم لمتاهاتها؟!  

ثم هنالك أمرٌ آخر يقف كقاطع طريق في منتصف هذه التساؤلات, وهو كيف نفسر توجه كاتبٍ ما إلى الكتابة بغير لغته الأم؟! كما فعل ميلان كونديرا مثلا عندما كتب نصوصه بالفرنسية عوضا عن التشيكية؟! أو إليف شافاق  عندما كتبت باللغة الإنجليزية عوضا عن التركية؟! كيف يمكن لكاتب ما أن يُبدع نصا بلغة هو غير ملم بأبعادها التاريخية والحضارية مهما كان متقنا لها؟! هل يمكننا القول بأن الكاتب هنا هو المترجم ذاته للنص؟! بمعنى آخر , هل يمكننا أن نعتبر أن النص الأصلي ضائع في مهب الغياب وهذا الذي بين أيدينا هو نص مترجم لذلك النص الغائب مادام أن اللغة التي استعان بها الكاتب هي غير لغته الأم؟! أيمكننا أن نعتبر أن الكاتب هنا “خائن” كذلك؟! ثم أليس الرهان هنا هو قدرة الكاتب على الإمساك بناصية اللغة الأخرى من جذورها؟! ولكن بالرغم من كل هذه التساؤلات وجدنا أن بعض هذه النصوص التي كٌتبت بغير اللغة الأم للكاتب كانت نصوصا إبداعية وخلاقة؟! ترى ما هو السبب الجوهري وراء ذلك؟! ألا يمكن أن يكون انصهار روح الكاتب بكل أحاسيسها في أتون عشق هذه اللغة الأخرى والتماهي معها هو السبب الجوهري وراء هذا الإبداع؟! وهذا التساؤل يعيدنا إلى المترجم الآخر مرةً أخرى..هل يكفي بأن يكون مترجم النص الأدبي ملما باللغة الأخرى ميكانيكيا ليترجم لنا نصا أدبيا إبداعيا؟! ألا ينبغي على المترجم هنا ألا يترجم نصا واحدا مادام لم ينصهر في أتون عشق هذا النص وأبعاده اللغوية انصهارا كاملا؟! أي ألا يكون الرهان هنا سواء كان في الكتابة المباشرة أو الترجمة على حد سواء هو عشق اللغة بكل أبعادها الجمالية التي تساعد على إعادة تشكيل هوية عاشقها من جديد؟! ألا تكون الترجمة هنا ضرباً من التحليق في عوالم النص الهائلة بجناحين من عشقٍ ومهارة؟!  

ومن هنا يمكن أن نتفهم رفض بعض الكتّاب وخصوصا الشعراء بعض التراجم لنصوصهم كما رفض شاعر ألمانيا العظيم ريلكه خمس ترجمات فرنسية عُرضت عليه لعمله الملحمي (أغنية عشق لحامل الراية) لأنها لم تُترجم ضمن “روحه الحقيقية” كما جاء في “كتاب الساعات وقصائد أخرى” لريلكه بترجمة كاظم جهاد.

 

ولكن, بالرغم من كل هذه التساؤلات التي تنبثق في سماء الترجمة مثل شهب ثاقبة, هناك حقيقة واحدة مسلّم بها, وهي أن الترجمة لا غنى لنا عنها, فهي إن كانت خير , فهي خيرٌ مضاعف, وإن كانت شر فهي شر لابدّ منه, وإلا كيف تسنى لنا نحن القراء أن نطّلع على إرث عظيم من الأدب النابع من الحضارات المختلفة؟!

بقلم عدنان المناوس

(الجحيم)

قراءة في رواية الجحيم لهنري باربوس

.

(كنتُ أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم). خبطت رأسي هذه العبارةُ مثل حجر، عندما كنتُ أقرأ الفصل الأول من كتاب (اللامنتمي) للكاتب الإنجليزي كولن ولسون، حيث صدمتني هذه الجملة وأنا أقرأ ما اقتبسهُ الكاتب من رواية الجحيم لـلكاتب الفرنسي هنري باربوس. فتوقفتُ قليلا، وأعدتُ قراءة المقطع المقتبس من جديد كاملاً، متأملاً في شخصية البطل من العمق. وأنا الممسوس بقراءة الروايات التي تتناولالشخصيات الغريبة والنافرة من المحيط الاجتماعي والنفسي الساكن والرتيب. وهي ذات الشخصيات التي صنّفها كولن ولسون بالشخصيات (اللامنتمية). فعرفتُ حينها لماذا شدّتني شخصية (روكانتان) في (الغثيان) لسارتر أو (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لكامو أومعظم أبطال (دوستويفسكي) الروائية وغيرها. ولكن لماذا اخترتُ الكتابة الآن عن رواية (الجحيم) وبطلها على وجه التخصيص؟! لأنها الرواية التي جعلتني (أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم!).

.

صدرت الرواية الأصلية بلغتها الفرنسية عام 1918م بينما الطبعة المترجمة التي قرأتها لها كانت صادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2016م بترجمة رائعة للكاتب والمفكر اللبناني جورج طرابيشي.

كُتبت الرواية من وجهة نظر بطلها المضطرب الكئيب والذي ظلّ بلا اسم ولا انتماء طيلة الرواية في سرده للأحداث بضمير المتكلم. وكأنالكاتب كان يريد بعدم تسميته، أن يذلّل كلّ حاجزٍ يحول بين القارئ وبين العيش في أجواء القصة والذوبان في ذات بطلها حدّ الاتحادوالحلول، فيذوق حينها كلّ عذابات بطل الرواية ووحشته الهائلة. تلك الوحشة التي يصفها الكاتبُ على لسان شخصيته بقوله: (إنني ألمحُ فيهذا الجو الذي أخذ الظلام باجتياحه، بروز جبهتي وبيضوية وجهي، وتحت جفنيّ الراف نظرتي التي أدخل بها إلى ذاتي وكأني داخل إلى قبر!).

جاء صوتُ الراوي في الرواية بصيغة (ضمير المتكلم)، وأراه هنا مناسبا تماماً لنقل وجهة نظر الرواية للقارئ من بين تقنيات الأصواتالروائية الأخرى لسببين رئيسيين:

أولاً: بطل الرواية كان يراقب حيوات بشرية متعددة تمرُّ عليه من ثقبٍ في جدار غرفته يطل على الغرفة المجاورة في أحد نُزل باريس. وهي المكان الذي أغراه بلعب دور الإله في مراقبة العابرين الذين ينزلون في تلك الغرفة مؤقتا ويمضون وهم لا يعلمون أن هناك عيناً تراقبهم من ثقبٍ في الجدار سوف يحكي صاحبها ما جرى بينهم هناك بالتفصيل على شكل رواية. لذلك كان صوت بطل الرواية هو الأنسب لسرد تلكالأحداث من وجهة نظره.

ثانياً: في روايةٍ كهذه تتكأ على البعد السيكولوجي لبطلها اتكاءً شبه تام، أرى أنّ (ضمير المتكلم) يساعد بشكلٍ أعمق على الإمساك بتلابيب القارئ وجعلهِ يغوص لاشعورياً في أمواج الاضطرابات السيكولوجية العاتية في أعماق الشخصية الروائية ليسبر أغوارها المخفية خلف الكلمات بحيث يّمحي الحدُّ الفاصل بين العالم الروائي والعالم الواقعي فتسكن القارئَ الشخصيةُ الروائية حتى بعد انتهائه من قراءة الرواية بقدر ما استطاعت هذه الشخصية أن تجرّهُ إلى أعماقها.

أما من ناحية (الحوار)، والذي يشكّل أحد أهم الأركان التي يقوم عليها بناء الرواية بشكل عام. نجد أنَّ الحوار في طابعه العام هنا ينقسمإلى قسمين: الحوارُ الداخلي بين البطل ونفسه (المونولوج)، ونقل الحوارات التي يسترق السمع لها عند اختلاسهِ النظر للشخصيات القاطنة في الغرفة المجاورة من خلال ثقب الجدار.

وفي كلا الأمرين، لم أجد هناك حشواً أو ترهلاً باعثا للمللِ في الحوارات، بل ظلَّت تتدفق في جسد الرواية تدفق الدماء في الشرايين حيثالحوار في أيِّ روايةٍ هو (الشريان الذي يمد الرواية بالحياة) على حدّ تعبير الكاتب عبدالرحمن منيف والذي نقلتهُ الكاتبة بثينة العيسى فيكتابها (بين صوتين). وقد تمّ ذلك من خلال تحقيق شرطين مهمين في الحوار حددتهما الكاتبة الإيرلندية إليزابيث بوين بقولها إنه (يجب علىالحوار أن يدفع بالحبكة، وأن يعبّر عن الشخصية) كما نقلت عنها بثينة العيسى في ذات الكتاب.

وأقتبس هذا كمثال على ذلك:

(هل أنا سعيد؟ أجل، إنني لا أعيش في حداد، ولا في حسرات، وليست بي رغبةٌ معقدة. إذن أنا سعيد، إنني لا أذكر أنه كانت تنتابني منذأن كنتُ طفلاً إشراقات من العواطف، إشفاقات صوفية، حبٌ مرضي لحبس نفسي بمفردي مع ماضيي).

والتوظيف الوصفيّ في الرواية لا يقلُّ شأناً عن الحوار كذلك، فالوصف هنا يشدُّ القارئ لأحداث الرواية بحبلٍ لا يترهل ولا ينقطع. إذبالأسلوب الوصفيّ المدهش والخلاّق للكاتب يُصبح القارئُ ذاتهُ جزءاً من الحدث بمشاركته حسياً فيه. وهي الغاية المنشودة من الوصف كمايرى الكاتبُ الأمريكي ستيفن كينج (بأنَّ الوصف هو وسيلتك لجعل القارئ مشاركاً بحواسه في الحكاية، الخدعة أن تجعله يرى ما يحدثويسمعه ويشمه) في كتابه (عن الكتابة: ذكريات عن الصنعة/ On writing: A memoir Of the Craft ).

ولنأخذ هذا المشهد من الرواية كمثال:

(أشعلَ سيجارةً، لمحتُ أساريرهُ التالفة، لحظة أضاءها البصيصُ الصغير السريع وحطَّ عليها كقناعٍ متوهج، ثم دخّن في القمة الشفافة، ولم أكن أميز إلا السيجارة الملتهبة التي تحركها ذراعٌ مبهم، خفيفة كالدخان الذي تنفثه، وحين كان يقرّب السيجارة إلى فمه، كنتُ أرى نورَ زفيره الذي سبق ورأيتُ ضبابه في رطوبة المكان).

.

ختاماً، احدى مأثورات كافكا تقول: (على الكتابِ أن يكون الفأس التي تكسرُ البحر المتجمد فينا) وأرى بأن رواية (الجحيم) هنا على مختلف الأصعدة الأدبية، الثقافية، السيكولوجية والفلسفية تكسرُ الجليدَ القابع في أعماق وعي القارئ ورؤيتهِ الكونية، فيُبعث من سكونهِ انساناًمختلفا يرى أكثر وأعمق من اللازم، كبطل الرواية تماما!.

.

#عدنان_المناوس

#حرفي

#الجحيم

#هنري_باربوس

سقوطٌ في عتمةٍ وجودية

 

منذ أن قرأ عن (تناسخ الأرواح) وهو مأخوذٌ بهذه الفكرة التي عصفت هواجسها برأسه. ظلّ يحاول أن يغوص عميقاً في أغوار الذاكرة مثل سمكة ( الأنجليرفيش) المضيئة فلربما استطاع أن يصطاد في تلك العتمة الهائلة صورةً له شاردةً من العالم الآخر فيعرفُ من أو ماذا كان قبل أن تنزلق روحه عبر نطفةٍ حقيرةٍ من نُطف أبيه الكثيرة ليولد إنساناً رغماً عنه!

.

في احدى المرات فوّت الحضور لأمسيةٍ شعريةٍ أُعِدّت لأجله احتفاءً بإصدار ديوانه الشعريّ (الثالث عشر)، حضرها لفيفٌ من الأدباء والمثقفين ماعداه!. لأنهُ لمح وهو يُسرّح شعرهُ أمام المرآة طيفاً شفيفاً هلامياً لكائنٍ ما فظلّ يحدّق في المرآة مأخوذاً به لساعةٍ كاملة ظناً منه أنّذلك الطيف هو صورة الكائن الذي كانه قبل أن يولد على هذه الهيئة البشرية، فظلّ يتفحصها كما كان الرجل المذعور في لوحة (روح) للرسام الفرنسيّ التوضيحي (جورج رو) يتفحّص طيف الفتاة الشفيف التي تراءت له بفستانها الناصع البياض في عتمة غرفته وهي تعزف على البيانو الخاص به.

.

(حسناً وأيّ كائنٍ حقيرٍ آخر سأصير بعد ذلك، ربااه ألن ينتهي هذا العذاب ؟!)

كان يُفكرّ بهذا السؤال وهو يقضي حاجته الوجودية في حمّام غرفته، فلمحَ عند احدى الزوايا صُرصاراً داكن اللون يُحدّق في عينيه مباشرةً وكأنّ قرنيّ استشعاره الطويلين يقبضان روحه من عينيه!

.

فكّر مذعوراً (ماذا لو متّ الآن وانتقلت روحي إلى هذا الصرصار الحقير في هذا المكان الحقير، وجاءت زوجتي الحقيرة تطرق عليّ الباب فلا أجيب، فتفتح الباب عنوةً وتراني مرمياً على أرضية الحمام ملوثاً بقاذوراتي، والصرصار (الذي هو أنا) واقفٌ عند رأسي البشري اللعين؟! ستصرخ مذعورةً ولأنها تعاني من (فوبيا الصراصير) سوف تضربني أولاً بحذاء المنزل قبل أن تهبّ لنجدة جسدي البشري وسأموت حينها للمرة الثانية! ولكن في هذه المرة ستظلّ روحي عالقةً بأسفل ذلك الحذاء مثل علكةٍ قذرة!)..!

.

أيقظتهُ من شروده طرقاتُ زوجته المتتالية على الباب ونداءاتها المتكررة له للإسراع بالخروج لتناول وجبة الغداء الجاهزة منذ مدة.

.

انتهى من قضاء حاجته سريعاً وخرج للمائدة التي تنتظره. ولكنهُ منذ ذلك الحين، كلّما خطا خطوةً بحذاء المنزل شعرَ بوخزٍ غريبٍ ينغرز في قلبهِ مثل شوكة.!

.

.

#عدنان_المناوس

#حرفي

#قصة_قصيرة

خفاشٌ في المكتبة!

ليس عنواناً مجازياً، ولا استعارة أدبية جمالية، فمن أين نتلمس الاستعارات الجمالية في مُفردة أضحت أكثر المفردات رعباً ووحشةً للإنسان منذ أن ارتبطالخفّاشبجائحةكورونا“…حمانا الله وإياكم من شرها المُستطير!

.

.

خفّاشٌ في المكتبة

هكذا بكل بساطةٍ مخيفة..وقدَرٍ سماويٍّ غريب….”خفّاشٌ في المكتبة“..!!

.

استيقظتُ مبكّراً هذا الصباح، لا لشيء إلا لأن ساعتي البيولوجية ترفض أن توقف رنينها في رأسي كلّما أطلتُ في النومو الفضل يعود في ذلكللدوامطبعاًو الدوام لله ..!!

قلتُ في نفسي بعد أن انتعش جسمي قليلاً بحمّام شبه دافئطالما نحن مازلنا (بين بين)…بين الشتاء والصيف..!

فلأدخل المكتبة وأكمل الرحلة الأندلسية في (ثلاثية غرناطة) لرضوى عاشورأو العدمية في (مثالب الولادة) لسيورانأو الشعرية في( فمٍ يتشرّد في جهات الجمر ).. لإبراهيم الحسين“..!

.

ولكن كلّ هذا لم يحدثوالسبب بكل بساطة (خفّاشٌ في المكتبة)..!

.

دخلتُ المكتبة كما يدخل المؤمنون الجنة (بسلامٍ آمنين)…! رفعتُ شنطة الكتب الزرقاء التي ترافقني أينما ارتحلتُ وحللتُ..إلا أننيويا لسوءالطالعلمحت جسد الخفاش البنّي متعلقاً على ظهرها مطمئنا وسكراناً برائحة الكتب..!

وإذا بيبدافعٍ من غريزة النجاة المحضة التي اجتاحتني رعشتها من أطول خصلة في شعري بقيت واقفةً مثل نخلة لم ينجحالمشطفي إنزالها على ظهرهاإلى أطول ظفرٍ في قدميأنزلتُ الشنطة مرةً أخرى إلى الأرض حاجزاًالخفاشبين ظهر الشنطة و الأرضية بسرعة البرقمتسائلاً في أعماقي بكل علامات التعجب والاستنكار….(خفاشٌ في المكتبة..!!!)

.

استجمعتُ في كفّيّ قوةّ لا أعلم من أين أتت عظمتهاضربتُ الشنطة على بطنها مثل ممسوسٍ ضربات لم أفكّر في إحصائها….سمعتُ أنةً حادةً وأنا أضرب الشنطة ولم أتوقفسمعتُ صوت شيءٍ يتكسّر في الشنطة….حسناً ربما قلمياللعنة (ياروح مابعدك روح)..ولم أتوقفأخذت شنطة مستطيلة أخرى وأكثر صلابةً من هذه قريبةً مني تحمل في داخلها درعاً بمناسبة إكمالي لخمس سنوات في وظيفتيوزدتُ الثقل على الشنطة بها ورحتُ أضرب ولم أتوقف…! فما زلتُ تحت سكرة الصدمة حيث (خفّاشٌ في المكتبة..)!

.

في النهاية توقفت….رفعتُ شنطة الدرعوبدأتُ أرفعُ الشنطة الأخرى بحذر من طرفها العلوي..شيئاً فشيئاً لأتأكد من أن هذه الضربات لم تذهب سدىًوتأكدّ لي ذلك عندما رأيت أثراً من دمائه السائلة من رأسه المفضوخ تحت وقع الضربات الهستيرية..!

.

كنستهُ ورميتُ كلّ ما استعملتهُ في محو آثار المعركة، وعقّمت المكانإلا أنني لم أكنس أثر الصدمة من عروقي..! خرجتُ قليلاً لعل رياح اليوم المُثقلة بالغبارتُطيرّ الصدمةلكنّ التفكير بالاحتمالات اللامتناهية من كيفية دخوله للمكتبة لم تفارق ذهني كلّما خطفَ طيفُ صورته اللعينة أمام عينيّعدتُ للمنزلدخلت المكتبة ..ولأول مرةٍ لم أشعر بتلك الطمأنينة والسكينة التي تبعثها هذهالجنةعلى حد تعبيربورخيسإذ مازلت أسمع الصدى في أعماقي يرددخفّاشٌ في المكتبة“..!!

.

حاولتُ مرةً ومرتين وثلاثولكني في كل مرةٍ أدخلهاأشعر أن هناك واحدا آخرا أو ربما قبيلةً من الخفافيش سوف تخرج لي من بطون الكتب وتهاجمني انتقاماً لذلك الخفاش الذي تسللّ خفيةً من المجهول فنال جزاء هذا التسلل الغير مشروع..!!

.

.

وها هو اليوم شارف على نهايته….ولم أدخل المكتبة كعادتي اليوميةولم أكمل فيها لا (ثلاثية غرناطة) ولا (مثالب الولادة) ولا (فمٌ يتشرّد فيجهات الجمر) على خلفية موسيقى الجاز وأجواء المقاهي التي أستمع إليها من منصةاليوتيوبوقت القراءة ولا أكملتُ  الساعة المتبقية الأخيرة حتّى من الفيلم الطويل للمخرج الفلبيني الكبير (لاڤ دياز) (From What is Before ) والممتد لخمس ساعات ونصف…..والسبب في ذلك كله….(خفّاشٌ في المكتبة)..!!

.

.

عدنان المناوس