الشهر: أكتوبر 2022

(النص المعنّف)

(النص المعنف)

(في نقدالنقد المدرسيومواضيع أخرى)!

.

يتضمّن كتاب (النص المعنف) الصادر في طبعته الأولى عن دار مدارك عام 2020 للكاتب التونسي عبدالدائم السلامي ثلاثةَ فصول توزّعت بين المئة والثمانين صفحة في كتابه. وهي معنونة كالتالي : (ما قاله القارئ) وفيه يتطرّق إلى مقترحاتكما يراهاأنها تصلح (لحسن التعاطي مع لحظتنا الراهنة، منها ما اتصل بالنص الروائي ذاته من حيث قراءته، وفن إخراجه، وبلاغة جُمله)*.

وتطرق في الفصل الثاني والمعنون ب (مالم يقله الروائي) إلى مقالات ركّزت على ما لا يُصغي له روائيونا العرب بالتحديد في رواياتهم حيث ينصب تركيز الروائي على ماتراه العين وتُهمل ما لاتراه بالرغم من أن هذا الذي لا تراه قد يكون أكثر ثراءً للنص من الجوانب الفنية وأعمق غوراً في المضمون.وختم الكتاب بفصل (قراءات) والذي جمع فيه بعض قراءاته النقدية لبعض الروايات العربية.

.

في هذه المراجعة سأركّز على أمرين من هذه الأمور العديدة التي تطرّق لها الكاتب في كتابه البديع وهي أولاً تناوله للنقد الأكاديمي ومقارنته بالنقد الانطباعي و ثانياً مناقشة فكرة (الإخراج الروائي).

يُمهد الكاتب للقارئ في كتابه عن الرؤية النقدية التي سيبني عليها كتاباته الموزعة في الفصول الثلاثة بقوله : ( هذا الكتاب زاهدٌ في كلّ نزوع علمي. إن نزوعه ممزوجٌ بلُطفٍ عقليوهو اقتراحٌ ابتعد فيه عن جفاف البحوث وأرثوذكسيتها المنهجية)* أي أنّ الرؤى النقدية المطروحة في الكتاب هي رُؤى انطباعية وهي السبيل الذي ارتآه الكاتب إلىحب ما يقرأ“.هذه الرؤية هي انتصار للنقد الانطباعي على النقدالأكاديمي باعتبار أن النقد الانطباعييُدللالنص بقراءته وتفكيكه عن حب غير مشروط وقراءة حرة، بينما النقد الأكاديمييُعنّفالنصَّ بتنظيراته الجاهزة التي يأتي بها الناقدُ إلى النص بُغية تشريحه وتفكيكه وتطبيق القوالب النقدية الجاهزة عليهقسرا، حيث أنّ المنهج النقدي الأكاديمي يوجّه الناقدبوعيٍ منه أو دون وعيإلى ما تريدهُ هذه النظريات لا ما يريده النص والقارئ الحر!

يقول الكاتب في المقال الأول من الفصل الأول والمعنون ب( أن نُحب ما نقرأ) : ( وأزعمُ أنّ مايسميه الأكاديميونقراءةً منهجية” <قراءةالأساتذة> هي في رأيي قراءة تعليمية، كلّ فضلها أن تدرّب الطلبة على النصوص. وهي خارج مجال التعليم، أفسَدُ قراءات الأدب لأنها تُعنّف النص، وتُحقق فيه أحلام المنهج لا أحلامه هو)*. وهي نقطة جديرة بالاهتمام ليس فقط على الصعيد الروائي بل الشعريّ والفني بشكل عام.

وهنا أرى من الجميل المقاربة بين هذه الرؤية النقدية/الروائية وبين الرؤية النقدية/الشعرية التي جاءت في كتاب (زمن الشعر) للشاعر الكبير أدونيس.

يقول أدونيس في فصل (الكتابة الجديدة/النقد الجديد) : (يسير النقد العربي السائد ضمن اتجاهين رئيسيين : مدرسي وأيديلوجي.

…..

النقد الجديد هو في الخروج عن هذين الاتجاهين: لا يصدر عن موقف إيديلوجي مسبّق يتحكّم به، ولا عن موقفٍ مدرسيٍّ يضيق أفقه، وإنما يحاول أن يقرأ النص بذاته، ويقدم هذه القراءة بوصفها احتمالاً نقدياًتقويمياً، من احتمالات عديدة.

..

هكذا يحاول النقد الجديد أن يكتب <نصاً ثانياً> على النص الأصلي..)*

.

إذن رأينا كيف رجَحت كفة النقد الانطباعي على النقد الأكاديمي أو المدرسي الموجّه في كلا الحقلين (الروائي و الشعري) بحسب رأي عبدالدائم وأدونيس وهو الرأي الذي أميل له شخصياً كذلك في هذين الحقلين الإبداعيين وحقول فنية أخرى كالسينما.

الإخراج الروائي :

يطرحُ الكاتب هنا فكرة جديرةً بالاهتمام وهي فكرة وجود (المخرج الروائي) على غرار (المخرج السينمائي). وهذه الفكرة قد تسدّ مكان المُحرّرالشاغر في معظم دور النشر العربية التي حتى وإن وُجدالمحررفيها فغالبا هو يؤدي وظيفةًميكانيةلا إبداعية تمشي بالتوازي مع الكاتب في خلق عملٍ إبداعي يظهر للمتلقي في أبهى حلّته مكتمل العناصر الفنية أو يكاد من ناحية الحبكة واللغة وغير ذلك منالجماليات الفنية.

يقول الكاتب : ( لا بدّ منفنٍّمتصلٍ بكتابة الرواية، يسعى بها إلى كمالها الأدبي، ويُنجز على مخطوطها قبل نشرها، ويقوم به شخصٌ ذوكفايات قرائيّة سأفصّل القول فيها لاحقاً، ويُمكن أن أسميه : المُخرج الروائي)*!

والمخرج الروائي هو بالضرورة سيكون القارئ الأول للعمل وهو موجودٌ بشكله الخفيّ وببعض مهماته بشكل أو بآخر إلا أنه كما يقول: ( يبدولي حان الوقت لإظهار دور المُخرج عبر تحديد ملامحه ومهامّه)*.

ومن ثمّ يُفرّق هنا بين المُخرج الروائي والمحرًر الأدبي بقوله : ( فمن ملامحالمُخرج الروائيأنه يختلف عن المحرّر الأدبي (بمفهومه الجاري في استعمالنا) وإن اشتركا في بعض المهمات. وصور هذا الاختلاف أن المُخرج الروائي يكون في تواصلٍ مباشرٍ مع كاتب الرواية دون واسطةٍ إدارية، حيث تجيئه الرواية باختيارهابرغبةٍ من كاتبها، بينما يكون المحرر الروائي موظفاً لدى مؤسسةٍ ذات اهتمام أدبيمثل دور النشر وغيرهاوهي التي تفرضه على الرواية أو تفرضها عليه. يُضاف إلى ذلك أنّ المُخرج الروائي يُنجز مهمتهُ متطوعاً ومدفوعاً بعشقه الأدب، وغايته هي تحقيق متعة مخالطة النصوص الأدبية، فهو يشتغل ضمن سياق عشقيٍّ إتيقي يُرضي فيه الرواية لتُرضي قرّاءها، في حين يشتغل المحرر الأدبي على الرواية وغايته هي الاسترزاق منها حتى وإن كان مُحباً للأدب أو كاتباً له، أي يشتغل ضمن سياق تجاري حسابيّ يُرضي فيه مُشغّله.)* إلخ

.

شخصياً أؤمن بأهمية وجودالقارئ الأوللكل كاتب لأنّ الكاتب مهما بلغت عظمته يحتاج لعيون أخرى تضيء له النقاط العمياء التي لم يستطع كشفها وقت كتابته أو مراجعته الذاتية للنص، ولكن ليس كل كاتب للأسف يتوفر لديهالقارئ الأول، وفي ظل ضعف العملية التحريرية التي ابتُلي بها الكاتب العربي في العديد من دور النشر، تكون فكرة (المخرج الروائي) هنا فكرة ناجعة وذات غنىً للكاتب والقارئ معاً في آن، للكاتب من حيث تجويد النص وتشذيبه من النواحي الفنية ليظهر النص بأبهى حلّته، وللقارئ من حيث المتعة والفائدة التي سيجنيها من قراءة هذا العمل الإبداعي الذي ظهر نتيجة اشتغال جاد ومراجعة دقيقة.

.

ختاماً، استمتعتُ كثيراً بقراءة هذا الكتاب البديع و بلغة الكاتب الأدبية الرشيقة ذات الإيقاع الجاذب التي من خلالها فتح لي آفاقاً باعثةً علىالتأمل في أبعادها ، وماتركيزي على هاتين الفكرتين إلا غيض من فيض مايحتويه هذا الكتاب من جمال وثراء معرفي و أدبي رفيع.

.

انتهى

.

.

#عدنان_المناوس

#النص_المعنف

#مراجعة_الكتب

#عبدالدائم_السلامي

#اقرأ

تساؤلات في حضرة “الترجمة”


 

 

الترجمة بمنظورها الواسع هي جسرٌ مهمٌ يربط بين الشعوب المختلفة وثقافاتها عن طريق نقل المعارف المختلفة بينها. وكنتيجة لذلك يؤثر هذا النقل المعرفي على الرؤية الكونية بمختلف تفرعاتها العلمية, الأيديولوجية والدينية على حضارات وثقافات الشعوب المختلفة على مستوى العقل الجمعي و الفردي على حد سواء. وأثر الفلسفة اليونانية على الفلسفة الإسلامية نتيجة الترجمات التي قام بها الكندي والفارابي وابن رشد لأفكار “أفلاطون” و “وأرسطو” كما تشير بذلك بعض الدراسات مثالٌ واحدٌ من أمثلة يصعب حصرها.  

.

أما إذا ما تطرقنا للترجمة الأدبية, فأول ما يتبادر إلى الذهن المثَل المتداول ذو الجذور الإيطالية والقائل بأن “الترجمة خائنة” وتكاد هذه العبارة تتمزق أطرافها من فرط الشد و الجذب بين المتجادلين في حضرتها بين مؤيد ومعارض وحيادي. وهذا أمرٌ شرعي مادام النص الأدبي ينبع من روح الكاتب المحملة بكل ما يختلج في لاوعيهِ من إرثٍ ثقافي خاص وذاكرة لا تخص أحدا سواه.!

 

ولكن عند قولنا أن فعل الترجمة هو فعل “خيانة” فما هو المعيار الصلب الذي يستند عليه قولنا هذا؟! ما دام النص الأصلي في الغالب غائبٌ عنّا لغة كعتبة أولى للنص, بالإضافة إلى عدم الإلمام بالإرث الثقافي والحضاري لكاتبه؟! أليس لكل لغة خصائص تميّزها عن باقي اللغات الأخرى؟! وبالتالي أليس معيارنا في هذا الحكم نابعٌ من هذه الخصائص التي نتكئ عليها في لغتنا الأم بشكلٍ لاواعي بكل ما تحمل هذه المعايير من أبعاد جمالية؟! أي أننا في الحقيقة كلما وجدنا النص المترجم يقترب من روحنا الأدبية وأبعادها الجمالية في اللغة, كلما حكمنا على الترجمة بأنها أمينةٌ للنص الأصلي بقدرٍ كبير؟! وبالتالي هل يصح لنا افتراض أنه كلما اقترب النص من ملامسة هذه الأبعاد الجمالية في لغتنا ابتعد أكثر عن النص الأصلي بكل خصائص لغته المتعددة؟! إذن هل يمكن لنا أن نعتبر هذه خيانة؟! ومن هذا الباب ألا تمثّل الترجمة كتابةً إبداعية موازية للنص الأصلي وليست مولودةً منه؟! ثم أليس من الصعوبة بمكان أصلا القبض على روح النص الأدبي مهما حاول المترجم ملاحقة النص وكاتبه مستعينا بذخيرة معرفية باللغة الأخرى وجانب لا بأس به من حياة الكاتب؟! ألا يكون هنا المترجم كمن يلاحق سرابا في بيداء لا تخوم لمتاهاتها؟!  

ثم هنالك أمرٌ آخر يقف كقاطع طريق في منتصف هذه التساؤلات, وهو كيف نفسر توجه كاتبٍ ما إلى الكتابة بغير لغته الأم؟! كما فعل ميلان كونديرا مثلا عندما كتب نصوصه بالفرنسية عوضا عن التشيكية؟! أو إليف شافاق  عندما كتبت باللغة الإنجليزية عوضا عن التركية؟! كيف يمكن لكاتب ما أن يُبدع نصا بلغة هو غير ملم بأبعادها التاريخية والحضارية مهما كان متقنا لها؟! هل يمكننا القول بأن الكاتب هنا هو المترجم ذاته للنص؟! بمعنى آخر , هل يمكننا أن نعتبر أن النص الأصلي ضائع في مهب الغياب وهذا الذي بين أيدينا هو نص مترجم لذلك النص الغائب مادام أن اللغة التي استعان بها الكاتب هي غير لغته الأم؟! أيمكننا أن نعتبر أن الكاتب هنا “خائن” كذلك؟! ثم أليس الرهان هنا هو قدرة الكاتب على الإمساك بناصية اللغة الأخرى من جذورها؟! ولكن بالرغم من كل هذه التساؤلات وجدنا أن بعض هذه النصوص التي كٌتبت بغير اللغة الأم للكاتب كانت نصوصا إبداعية وخلاقة؟! ترى ما هو السبب الجوهري وراء ذلك؟! ألا يمكن أن يكون انصهار روح الكاتب بكل أحاسيسها في أتون عشق هذه اللغة الأخرى والتماهي معها هو السبب الجوهري وراء هذا الإبداع؟! وهذا التساؤل يعيدنا إلى المترجم الآخر مرةً أخرى..هل يكفي بأن يكون مترجم النص الأدبي ملما باللغة الأخرى ميكانيكيا ليترجم لنا نصا أدبيا إبداعيا؟! ألا ينبغي على المترجم هنا ألا يترجم نصا واحدا مادام لم ينصهر في أتون عشق هذا النص وأبعاده اللغوية انصهارا كاملا؟! أي ألا يكون الرهان هنا سواء كان في الكتابة المباشرة أو الترجمة على حد سواء هو عشق اللغة بكل أبعادها الجمالية التي تساعد على إعادة تشكيل هوية عاشقها من جديد؟! ألا تكون الترجمة هنا ضرباً من التحليق في عوالم النص الهائلة بجناحين من عشقٍ ومهارة؟!  

ومن هنا يمكن أن نتفهم رفض بعض الكتّاب وخصوصا الشعراء بعض التراجم لنصوصهم كما رفض شاعر ألمانيا العظيم ريلكه خمس ترجمات فرنسية عُرضت عليه لعمله الملحمي (أغنية عشق لحامل الراية) لأنها لم تُترجم ضمن “روحه الحقيقية” كما جاء في “كتاب الساعات وقصائد أخرى” لريلكه بترجمة كاظم جهاد.

 

ولكن, بالرغم من كل هذه التساؤلات التي تنبثق في سماء الترجمة مثل شهب ثاقبة, هناك حقيقة واحدة مسلّم بها, وهي أن الترجمة لا غنى لنا عنها, فهي إن كانت خير , فهي خيرٌ مضاعف, وإن كانت شر فهي شر لابدّ منه, وإلا كيف تسنى لنا نحن القراء أن نطّلع على إرث عظيم من الأدب النابع من الحضارات المختلفة؟!

بقلم عدنان المناوس