الفئة:تحت ظلال القصة والرواية

حفّار قبور القرية الوحيد!


((إذنْ…مالذي سوف أفعلهُ لو بقيتُ وحيداً في آخر العمر؟!))
.
لا أدري كيفَ التمعَ هذا السؤالُ فجأةً كالبرق في خاطري فأوقف الزمنَ في عينيّ لحظةً ممتدةً بامتداد الأبدية وأنا أتسامرُ مع بعض الأصدقاء في مقهى (كريسبي كريم) الكائن في البلدة المجاورة لقريتي الوادعة!
كنتُ أحدّق في قهوة أحدهم عندما تلاشتْ صورتها شيئاً فشيئاً وحلّت مكانها صورة ذلك العجوز الذي التقيتهُ ذات يوم ظهراً و شمسُ الصيف الحارقة تغسل جبينه بالعرق !
.
كان جالساً وحيداً ..مُعدماً..على مصطبةٍ في (دروازة) القرية التي كان يومياً يلتقي في ساحتها بأصدقائه الذين حملهم واحداً واحداً إلى قبورهم قبل أن يُثقل رأسهُ الفقدُ ويُصاب (بجلطةٍ) أقعدته عن حفر القبور….!
العمل الذي كان يُتقنهُ في حضرة الموت!
.
كان جالساً وحيداً…عيناه شاخصتان في الفراغ، ترى ولا ترى ..! تجاعيدُ وجههِ الكثيرة بعدد أصدقائهِ الذين كلّما رحلَ واحدٌ منهم حفرَ على وجهه أخدودَ حزنٍ تجري فيه دموعه المالحة! حتى لم يبقَ مكانٌ في وجهه لأخدود آخر..!!
.
أوقفتُ سيارتي ونزلت للسلام عليه، قبّلت رأسهُ وكأنني أقبّل أوجاعهُ واحداً واحداً، وذكرياته التي لا تشيخ مع المرحوم جدّي (عبدالله) الذي كان من أقرب الأصدقاء إليه..
صديقُ العمر والسفر والشاي والسجائر..!!

بالكاد تعرّف على ملامحي، سألني ليتأكّد…(انت عدنان يبه)..؟! جاوبته بالتأكيد، وعيناي تتفحصّان آثار الزمن المرّ على وجهه وذاكرته، وروحه التي كانت تنشر الفرح والضحك بنكاته التي كانت تقاوم تقدّم قطارَ عمره لمحطّات الكهولة…!
حتى اجتاحهُ الزمنُ بجيشه الجرّار وتركهُ قلعةً مدمّرةً، تحاول أن تحافظ على آخر حجرٍ سليمٍ فيها!
.
ودّعتهُ وحشرجةٌ مسنونةٌ كسكينةٍ حادّة تكاد تقطّع حبالي الصوتية، ودمعٌ مثقلٌ بالذكريات الطفولية معه يكاد يفيض على وجنتيّ!
.
أيقظتني من هذه الذكرى الموجعة دمعةٌ فرّت من احدى مقلتيّ مثل عصفورةٍ فرّت من قفص متآكل واستقرّت على ظهر كفّي اليُسرى…رفعتُ رأسي أتفحصُ المكان والزمان من حولي…ولا أدري كذلك كيفَ تراءى لي أنّ ملامحَ المكان والزمان تغيّرت…!
النادلُ الذي ابتسمَ في وجهي ابتسامةً شاحبة وكأنه كان يقرأ أفكاري رأيتُه وكأنه قد كبُر أربعينَ سنة في طرفة عين..! وأنا …..
كنتُ وحيداً….!!
نعم…
كنتُ وحيداً في هذا المقهى مثل ذلك الرجل العجوز…أسترجعُ ملامحَ الأصدقاء الذين كانوا هنا قبل هذه الذكرى….وقلبي يُرددُ ما قاله محمود درويش ذات فقد…:
((
إنْ أعادوا لكَ المقاهي القديمة

من يُعيدُ لك الرفاق..؟!!))
.

(كُتب النص عام 2019، وانتقل الحاج (صالح المخيدير ) إلى رحمة ربه عام 2021)

(1987)


اللعنة، إنه الاستيقاظ من جديد!
قبل قليلٍ كنتُ أحيا ثلاث حيوات متوازياتٍ في لحظة واحدة!
.
حسناً، سأتوقف هنا لأحدثكم عنّي قليلاً،
اسمي لا أعرفه! لكنّني صدفةً وجدتُ شخصاً يناديني بهذا الرقم (1987)، وكأني بكم تتساءلون من هو هذا الذي ناداك ؟! حسناً لا أعرف من هو أيضاً، إذ فجأةً وجدتُ نفسي في غرفةٍ أعتقد أن مساحتها أربعة أمتار في ثلاثة (فكيف لي أن أكون متأكداً من ذلك بحق الرب وأنا ليس عندي ما أقيس به مساحة الغرفة غير عينيّ والانفراجة الضيّقة بين الخنصر والإبهام!)جدران الغرفة مطليةٌ باللون الأصفر الشاحب، أو هكذا أعتقد! نافذةٌ يتيمةٌ على الجدار الشماليّ للغرفة تُطلّ على العدم!
مرحاضٌ قذر، طاولةٌ خشبيةٌ صغيرة مهترئةٌ بجانب سريري عليها دفتر ملاحظاتٍ صغير وقلم رصاص هو هذا الذي أدوّن به هذه المذكرات في الدفتر.
.
دخل عليّ ذلك الشخص بثيابه البيضاء وناداني يا (1987) قف، فوقفت، اخلع ملابسك، فخلعت، وضعَ سمّاعةً تشبه تلك التي يستعملها الأطباءُ لجسّ النبض على صدري، فحصَ أسناني وفكّيّ بيد وبالأخرى قلمُ إضاءة أصفر صغير مصوِّبا فوهتهُ داخل فمي مثل مسدّس!
جسّ خصيتيّ بكلتا يديه وكأنه يزنهما، ثمّ دوّن بعض الملاحظات على ورقةٍ كان يحملها معه ورحل!
.
بقيتُ وحيداً في هذه الغرفة الشاحبة منذ أن غادر وحتى هذه اللحظة التي قرّرتُ أخيرا أن أكتب قصّتي فيها.لا أدري كم قضيتُ من الوقت ، بضعة أيام، أسابيع ، شهور، اللعنة لم أعد أشعر بالزمن! فكل ما أفعله هنا هو أكل الطعام -إن كان ذلك الحساء الكريه والرزّ البائت الذي يُقدّمُ لي من فُرجةٍ في الباب الحديدي يُسمّى طعاماً!-وقضاء حاجتي في ذلك المرحاض القذر والنوم على هذا السرير الذي تتغذّى فيه حشرات (البقِّ)على دمي.
.
في البداية كنتُ منزعجاً من كل هذه الأمور الغامضة كانزعاجكم الآن من ثرثرتي الطويلة! إلا أنني وجدتُ حيلةً للهروب من هذا الجحيم متى ما أردت، ألا وهي (الأحلام)!
فصرتُ أنام كثيراً محاولاً قلبَ المعادلة، ليكون الحلم هو حقيقتي الواقعية ،والواقع كذبة الحلم العابرة!
يُقال -حسب بعض النظريات العلمية- بأنه هناك عوالم موازية، وأنه بالإمكان زيارتها من خلال (السفر عبر الزمن)! حسناً أنا لستُ بعالمٍ ولا أهلٌ للعلم حتى، ولكني أعتقد بأنّني وجدت طريقتي لزيارة تلك العوالم من خلال الأحلام!
.
ما أزعجني بدايةً هو عدم وضوحها، إذ كانت تمرُّ عليَّ سريعة فأستيقظ دون تذكر أيّ شيءٍ منها، ولكني بعد تمرينٍ كافٍ على قوّة التركيز والتأمل بتّ أميّز تلك العوالم التي أزورها في الأحلام حتى أكاد أتحسسها بيديّ!
.
ولكي تتضح الصورة أكثر سأعرض عليكم مثالين من تلك العوالم الموازية، مرةً حلمتُ بأنني أعمل مع “لويس بانويل” -المخرج الأسباني الذي أحبه- على تصوير فيلم سوريالي، كنا في ذلك العالم الموازي نصور مشهداً يلتقي فيه مولانا (جلال الدين الرومي) ب(أندريه بريتون) فيدور بينهما حوار عشقٍ صوفيّ/سوريالي أو باختصار كما أسميناه أنا وصديقي العزيز “لويس” في الحلم (صوفريالي)، وهو حوارٌ ترونه بدل أن تسمعونه! بمعنى أنكم كمشاهدين ستشاهدون صوراً كثيرة تخرج من بين شفاههما بدل الكلمات، إلا أن الحلم انتهى -للأسف- بعد أن عطس “لويس” عطسةً مزمجرةً قطعت المشهد و زلزلت الباب الحديدي للغرفة فاستيقظت!
.
ومرةً حلمتُ بأنني زوج الفاتنة “مارلين مونرو”! كنا نتمشى في (بولڤار سان جيرمان) بباريس فوجدتُ مقهى (دي فلور / De flore) وهو المقهى الشهير الذي كان يترددُّ عليه الوجوديّون، سارتر وحبيبته المزعومة سيمون دي بوفوار و ألبير كامو وغيرهم، فطلبتُ منها برغبةٍ غامضة وملحة أن نستريح فيه قليلاً ونحتسي قهوةً سوداء مُرّةً!. وافقَت فجلسنا على احدى الطاولات التي ادّعى النادل أنّ هؤلاء الشياطين كانوا يتحلّقون عادةً حولها ويتداولون أفكارهم الوجودية ثقافةً وأدباً وسياسةً، فوجدتني فجأةً وقد شعرتُ بغثيان “سارتر” الوجودي يدبُ في أحشائي من هذه التفاهات الثلاث بأنني أضاجعها على طاولة المقهى وجمهورٌ غفيرٌ من حولنا يصفقون ويصفرون،حتى أيقظتني عضّةُ حادةٌ منها على احدى أذني!
.
على أية حال -إن كان هناك حال- صرتُ أنام كثيراً، وجدتُني أحيا في الأحلام الحيوات التي أريدها، وجدتني أجرّبُ نفسي في أكثر من حياةٍ وأكثر من عالم! كنتُ في الأحلام الكاتب والمُخرج والممثل في آن!
حتى اشتبهت هويتي الحقيقيةُ عليّ!
.
أعود إلى ذلك الحلم الذي حلمتهُ قبل أن أستيقظ الآن وأُشرع في تدوين هذه الثرثرة، قلتُ لكم أنني في ذلك الحلم كنت أعيشُ ثلاث حيوات متوازياتٍ في لحظةٍ واحدة!

كان حلماً غريباً….كنتُ جالساً وسط مرجٍ أخضر محاطاً بالورود حاملاً في كفّيَّ حمامةً بيضاء وفي الوقت نفسه كنتُ حمامةً بيضاء أشاهدُ رجلاً مشوهاً دون ملامح يحملني بكفيه وهو جالسٌ وسط الجحيم، على جبهته مطبوع الرقم (1987) يصغي إلى صوت شخصٍ آخرٍ قادم -هو صوتي تماماً- ينادي:

يا (1987) قف….فوقفت!
.
.
انتهى

#عدنان_المناوس

#قصة_قصيرة

(الجحيم)

قراءة في رواية الجحيم لهنري باربوس

.

(كنتُ أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم). خبطت رأسي هذه العبارةُ مثل حجر، عندما كنتُ أقرأ الفصل الأول من كتاب (اللامنتمي) للكاتب الإنجليزي كولن ولسون، حيث صدمتني هذه الجملة وأنا أقرأ ما اقتبسهُ الكاتب من رواية الجحيم لـلكاتب الفرنسي هنري باربوس. فتوقفتُ قليلا، وأعدتُ قراءة المقطع المقتبس من جديد كاملاً، متأملاً في شخصية البطل من العمق. وأنا الممسوس بقراءة الروايات التي تتناولالشخصيات الغريبة والنافرة من المحيط الاجتماعي والنفسي الساكن والرتيب. وهي ذات الشخصيات التي صنّفها كولن ولسون بالشخصيات (اللامنتمية). فعرفتُ حينها لماذا شدّتني شخصية (روكانتان) في (الغثيان) لسارتر أو (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لكامو أومعظم أبطال (دوستويفسكي) الروائية وغيرها. ولكن لماذا اخترتُ الكتابة الآن عن رواية (الجحيم) وبطلها على وجه التخصيص؟! لأنها الرواية التي جعلتني (أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم!).

.

صدرت الرواية الأصلية بلغتها الفرنسية عام 1918م بينما الطبعة المترجمة التي قرأتها لها كانت صادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2016م بترجمة رائعة للكاتب والمفكر اللبناني جورج طرابيشي.

كُتبت الرواية من وجهة نظر بطلها المضطرب الكئيب والذي ظلّ بلا اسم ولا انتماء طيلة الرواية في سرده للأحداث بضمير المتكلم. وكأنالكاتب كان يريد بعدم تسميته، أن يذلّل كلّ حاجزٍ يحول بين القارئ وبين العيش في أجواء القصة والذوبان في ذات بطلها حدّ الاتحادوالحلول، فيذوق حينها كلّ عذابات بطل الرواية ووحشته الهائلة. تلك الوحشة التي يصفها الكاتبُ على لسان شخصيته بقوله: (إنني ألمحُ فيهذا الجو الذي أخذ الظلام باجتياحه، بروز جبهتي وبيضوية وجهي، وتحت جفنيّ الراف نظرتي التي أدخل بها إلى ذاتي وكأني داخل إلى قبر!).

جاء صوتُ الراوي في الرواية بصيغة (ضمير المتكلم)، وأراه هنا مناسبا تماماً لنقل وجهة نظر الرواية للقارئ من بين تقنيات الأصواتالروائية الأخرى لسببين رئيسيين:

أولاً: بطل الرواية كان يراقب حيوات بشرية متعددة تمرُّ عليه من ثقبٍ في جدار غرفته يطل على الغرفة المجاورة في أحد نُزل باريس. وهي المكان الذي أغراه بلعب دور الإله في مراقبة العابرين الذين ينزلون في تلك الغرفة مؤقتا ويمضون وهم لا يعلمون أن هناك عيناً تراقبهم من ثقبٍ في الجدار سوف يحكي صاحبها ما جرى بينهم هناك بالتفصيل على شكل رواية. لذلك كان صوت بطل الرواية هو الأنسب لسرد تلكالأحداث من وجهة نظره.

ثانياً: في روايةٍ كهذه تتكأ على البعد السيكولوجي لبطلها اتكاءً شبه تام، أرى أنّ (ضمير المتكلم) يساعد بشكلٍ أعمق على الإمساك بتلابيب القارئ وجعلهِ يغوص لاشعورياً في أمواج الاضطرابات السيكولوجية العاتية في أعماق الشخصية الروائية ليسبر أغوارها المخفية خلف الكلمات بحيث يّمحي الحدُّ الفاصل بين العالم الروائي والعالم الواقعي فتسكن القارئَ الشخصيةُ الروائية حتى بعد انتهائه من قراءة الرواية بقدر ما استطاعت هذه الشخصية أن تجرّهُ إلى أعماقها.

أما من ناحية (الحوار)، والذي يشكّل أحد أهم الأركان التي يقوم عليها بناء الرواية بشكل عام. نجد أنَّ الحوار في طابعه العام هنا ينقسمإلى قسمين: الحوارُ الداخلي بين البطل ونفسه (المونولوج)، ونقل الحوارات التي يسترق السمع لها عند اختلاسهِ النظر للشخصيات القاطنة في الغرفة المجاورة من خلال ثقب الجدار.

وفي كلا الأمرين، لم أجد هناك حشواً أو ترهلاً باعثا للمللِ في الحوارات، بل ظلَّت تتدفق في جسد الرواية تدفق الدماء في الشرايين حيثالحوار في أيِّ روايةٍ هو (الشريان الذي يمد الرواية بالحياة) على حدّ تعبير الكاتب عبدالرحمن منيف والذي نقلتهُ الكاتبة بثينة العيسى فيكتابها (بين صوتين). وقد تمّ ذلك من خلال تحقيق شرطين مهمين في الحوار حددتهما الكاتبة الإيرلندية إليزابيث بوين بقولها إنه (يجب علىالحوار أن يدفع بالحبكة، وأن يعبّر عن الشخصية) كما نقلت عنها بثينة العيسى في ذات الكتاب.

وأقتبس هذا كمثال على ذلك:

(هل أنا سعيد؟ أجل، إنني لا أعيش في حداد، ولا في حسرات، وليست بي رغبةٌ معقدة. إذن أنا سعيد، إنني لا أذكر أنه كانت تنتابني منذأن كنتُ طفلاً إشراقات من العواطف، إشفاقات صوفية، حبٌ مرضي لحبس نفسي بمفردي مع ماضيي).

والتوظيف الوصفيّ في الرواية لا يقلُّ شأناً عن الحوار كذلك، فالوصف هنا يشدُّ القارئ لأحداث الرواية بحبلٍ لا يترهل ولا ينقطع. إذبالأسلوب الوصفيّ المدهش والخلاّق للكاتب يُصبح القارئُ ذاتهُ جزءاً من الحدث بمشاركته حسياً فيه. وهي الغاية المنشودة من الوصف كمايرى الكاتبُ الأمريكي ستيفن كينج (بأنَّ الوصف هو وسيلتك لجعل القارئ مشاركاً بحواسه في الحكاية، الخدعة أن تجعله يرى ما يحدثويسمعه ويشمه) في كتابه (عن الكتابة: ذكريات عن الصنعة/ On writing: A memoir Of the Craft ).

ولنأخذ هذا المشهد من الرواية كمثال:

(أشعلَ سيجارةً، لمحتُ أساريرهُ التالفة، لحظة أضاءها البصيصُ الصغير السريع وحطَّ عليها كقناعٍ متوهج، ثم دخّن في القمة الشفافة، ولم أكن أميز إلا السيجارة الملتهبة التي تحركها ذراعٌ مبهم، خفيفة كالدخان الذي تنفثه، وحين كان يقرّب السيجارة إلى فمه، كنتُ أرى نورَ زفيره الذي سبق ورأيتُ ضبابه في رطوبة المكان).

.

ختاماً، احدى مأثورات كافكا تقول: (على الكتابِ أن يكون الفأس التي تكسرُ البحر المتجمد فينا) وأرى بأن رواية (الجحيم) هنا على مختلف الأصعدة الأدبية، الثقافية، السيكولوجية والفلسفية تكسرُ الجليدَ القابع في أعماق وعي القارئ ورؤيتهِ الكونية، فيُبعث من سكونهِ انساناًمختلفا يرى أكثر وأعمق من اللازم، كبطل الرواية تماما!.

.

#عدنان_المناوس

#حرفي

#الجحيم

#هنري_باربوس

زقاقٌ لاحتمالاتٍ عديدة!

كلّما سار في الزقاق الضيّق المؤدي إلى مزرعته الصغيرة الكائنة في نهاية حدود قريته، رأى ذلك الكلب وهو (باسطٌ ذراعيه بالوصيد) كمايتخيّل دوماً كلب أهل الكهف الذي ما انفكّت الأسئلة تراودهُ عنهُ كلما تلا سورة الكهف بعد انتهائه من أداء صلاة الجمعة:

((ما الذي فعلهُ ذلك الكلب حتى تشمله تلك الكرامة التي حظيَ بها أهلُ ذلك الكهف؟! ما السرّ الكامن خلف اصطفائهِ من بين كلّ الكلابليسموَ مع أصحاب الكهف إلى مقامات الأولياء الصالحين ؟!! وهل كان ذلك الكلب……كلباً حقاً؟!)).

.

كان بدنهُ يقشعرُ كلما مرّ على هذه الآية تماماً كما كان كذلك كلما رأى هذا الكلب محدّقاً بنظره إلى البعيد وهو يعبرُ من أمامه إلى مزرعته.

.

كان كلباً هزيلاً، يكسو شعرهُ الأسود الغبار وكأنهُ قادمٌ من سفرٍ طويل في عاصفةٍ رملية.له أذنان طويلتان ذابلتان وعينان تشعان بريقاًغامضاً كأنهما هوّتان في فضاءٍ سحيق..!

.

في كلّ مرةٍ كان يراه فيها، يعبرُ من أمامهِ مسرعاً وهو يردد المعوذتين بصوتٍ خافت، متلفتاً مذعوراً من هذا الكلب الذي لم تتغير يوماً هيئتهُ ولانظرتُه المحدّقة إلى البعيد!

.

إلاّ مرة واحدةً في احدى الليالي المظلمة، قرّر أن يضع حداً لمخاوفه معه ، لعلهُ يتمكّن من طردهِ من ذلك المكان ومن مخيلته!

اقترب منهُ ولكنّ الكلب لم يتحرّك قيد أنملة، انحنى الرجلُ وحدّق في عينيه مباشرةً لكنّ تلك العينين اللامعتين بقيَتا محدقتين في البعيد!

.

قرّر أن يُقلّد وضعية الكلب، فجلس بجانبه ووضع ذراعيهِ وركبتيه على الأرض وأخذ يتمثّلُ هيئتهُ تماماً وهو (باسطٌ ذراعيه بالوصيد) محدّقامثلهُ إلى البعيد البعيد!

.

.

تلك الليلة كانت الليلة الأخيرة التي شُوهدَ فيها ذلك الرجلُ وهو يدخلُ ذلك الزقاق المؤدي إلى مزرعته دون أن يُخلّف أيّ أثر..!!

.

.

.

انتهى 🙏

.

#عدنان_المناوس

#القصة_القصيرة


خ

سقوطٌ في عتمةٍ وجودية

 

منذ أن قرأ عن (تناسخ الأرواح) وهو مأخوذٌ بهذه الفكرة التي عصفت هواجسها برأسه. ظلّ يحاول أن يغوص عميقاً في أغوار الذاكرة مثل سمكة ( الأنجليرفيش) المضيئة فلربما استطاع أن يصطاد في تلك العتمة الهائلة صورةً له شاردةً من العالم الآخر فيعرفُ من أو ماذا كان قبل أن تنزلق روحه عبر نطفةٍ حقيرةٍ من نُطف أبيه الكثيرة ليولد إنساناً رغماً عنه!

.

في احدى المرات فوّت الحضور لأمسيةٍ شعريةٍ أُعِدّت لأجله احتفاءً بإصدار ديوانه الشعريّ (الثالث عشر)، حضرها لفيفٌ من الأدباء والمثقفين ماعداه!. لأنهُ لمح وهو يُسرّح شعرهُ أمام المرآة طيفاً شفيفاً هلامياً لكائنٍ ما فظلّ يحدّق في المرآة مأخوذاً به لساعةٍ كاملة ظناً منه أنّذلك الطيف هو صورة الكائن الذي كانه قبل أن يولد على هذه الهيئة البشرية، فظلّ يتفحصها كما كان الرجل المذعور في لوحة (روح) للرسام الفرنسيّ التوضيحي (جورج رو) يتفحّص طيف الفتاة الشفيف التي تراءت له بفستانها الناصع البياض في عتمة غرفته وهي تعزف على البيانو الخاص به.

.

(حسناً وأيّ كائنٍ حقيرٍ آخر سأصير بعد ذلك، ربااه ألن ينتهي هذا العذاب ؟!)

كان يُفكرّ بهذا السؤال وهو يقضي حاجته الوجودية في حمّام غرفته، فلمحَ عند احدى الزوايا صُرصاراً داكن اللون يُحدّق في عينيه مباشرةً وكأنّ قرنيّ استشعاره الطويلين يقبضان روحه من عينيه!

.

فكّر مذعوراً (ماذا لو متّ الآن وانتقلت روحي إلى هذا الصرصار الحقير في هذا المكان الحقير، وجاءت زوجتي الحقيرة تطرق عليّ الباب فلا أجيب، فتفتح الباب عنوةً وتراني مرمياً على أرضية الحمام ملوثاً بقاذوراتي، والصرصار (الذي هو أنا) واقفٌ عند رأسي البشري اللعين؟! ستصرخ مذعورةً ولأنها تعاني من (فوبيا الصراصير) سوف تضربني أولاً بحذاء المنزل قبل أن تهبّ لنجدة جسدي البشري وسأموت حينها للمرة الثانية! ولكن في هذه المرة ستظلّ روحي عالقةً بأسفل ذلك الحذاء مثل علكةٍ قذرة!)..!

.

أيقظتهُ من شروده طرقاتُ زوجته المتتالية على الباب ونداءاتها المتكررة له للإسراع بالخروج لتناول وجبة الغداء الجاهزة منذ مدة.

.

انتهى من قضاء حاجته سريعاً وخرج للمائدة التي تنتظره. ولكنهُ منذ ذلك الحين، كلّما خطا خطوةً بحذاء المنزل شعرَ بوخزٍ غريبٍ ينغرز في قلبهِ مثل شوكة.!

.

.

#عدنان_المناوس

#حرفي

#قصة_قصيرة

على الحافة بقدمٍ واحدة..!

((إلى القصة وعنهافي يومها العالمي))

.

(اسحب كرسيّك إلى حافة الهاويةسوف أروي لك قصة)*!

هكذا ينادي سارد القصص والروايات العظيم سكوت فيتسجيرالد المتلقي لأن يشاركه التوتر الذي يغلي في الدم نتيجة الاستماع لقصة ماتقع أحداثها في عالم موازي يقع هو الآخر على الضفة الأخرى من الحياة, ألا وهو عالم المخيلة الرحب. حيث يضع المتلقي معه على الحافةمحافظا على الحد الفاصل بين العالم الواقعي والخيالي، محافظا على هذا التوتر الذي يجعل المتلقي يسير على هذا الخط الفاصل بينالعالمين بقدم واحدة مثل بهلواني. إن سكوت فيتسجيرالد يعي تماما أن الجمالية في سرد الحكايا تكمن في هذا التوتر الفاتن الذي ينأىبالمتلقي عن الغرق التام في العالم الموازي حيث يتركه القاص الحاذق مثل ريشة تلهو بها الريح في دائرة هذا القلق الجميل. هذا الحدالفاصل الذي يشبه الحالة المضطربة بين الحلم واليقظة إذ ينام الجسد وتبقى المخيلة تروي القصص على شكل أحلام ورؤى، ولربما هذا هو سرّ هوس الإنسان بالقصص منذ بداية تفتّق الوعي الإنساني على عوالم الحكاية..سواء كان بحثاً عن المتعة ..أو سعياً إلى الخلود..!

.

القصة كذبة؟! نعم لا نختلف في ذلك.. إلا أنها تكون كذبةً صادقة إذا ما أتقن القاص الحاذق حكايتها وأقنع المتلقي بصدق كذبته. كما يقولالكاتب الأمريكي راي برادبيري : (أن تكذب برقة، وتبرهن على صدق كذبتك..)! وهنا إذا كان سكوت فيتسجيرالد يضع المتلقي على حافة الهاوية ولا يدعوه للسقوط, فراي برادبيري يدعو الكاتب للسقوط في هذه الهاوية بقوله للكاتب القادم الآخر : (إنه دورك الآن, اقفز) ! ومن هذين الرؤيتين نتلمّس الفارق الشفيف بين السقوط الكلي للكاتب في الهاوية وقلق المتلقي الواقف على حافتها!

.

#حرفي

#عدنان_المناوس

#القصة_القصيرة

#اليوم_العالمي_للقصة_القصيرة