الترجمة بمنظورها الواسع هي جسرٌ مهمٌ يربط بين الشعوب المختلفة وثقافاتها عن طريق نقل المعارف المختلفة بينها. وكنتيجة لذلك يؤثر هذا النقل المعرفي على الرؤية الكونية بمختلف تفرعاتها العلمية, الأيديولوجية والدينية على حضارات وثقافات الشعوب المختلفة على مستوى العقل الجمعي و الفردي على حد سواء. وأثر الفلسفة اليونانية على الفلسفة الإسلامية نتيجة الترجمات التي قام بها الكندي والفارابي وابن رشد لأفكار “أفلاطون” و “وأرسطو” كما تشير بذلك بعض الدراسات مثالٌ واحدٌ من أمثلة يصعب حصرها.
.
أما إذا ما تطرقنا للترجمة الأدبية, فأول ما يتبادر إلى الذهن المثَل المتداول ذو الجذور الإيطالية والقائل بأن “الترجمة خائنة” وتكاد هذه العبارة تتمزق أطرافها من فرط الشد و الجذب بين المتجادلين في حضرتها بين مؤيد ومعارض وحيادي. وهذا أمرٌ شرعي مادام النص الأدبي ينبع من روح الكاتب المحملة بكل ما يختلج في لاوعيهِ من إرثٍ ثقافي خاص وذاكرة لا تخص أحدا سواه.!
ولكن عند قولنا أن فعل الترجمة هو فعل “خيانة” فما هو المعيار الصلب الذي يستند عليه قولنا هذا؟! ما دام النص الأصلي في الغالب غائبٌ عنّا لغة كعتبة أولى للنص, بالإضافة إلى عدم الإلمام بالإرث الثقافي والحضاري لكاتبه؟! أليس لكل لغة خصائص تميّزها عن باقي اللغات الأخرى؟! وبالتالي أليس معيارنا في هذا الحكم نابعٌ من هذه الخصائص التي نتكئ عليها في لغتنا الأم بشكلٍ لاواعي بكل ما تحمل هذه المعايير من أبعاد جمالية؟! أي أننا في الحقيقة كلما وجدنا النص المترجم يقترب من روحنا الأدبية وأبعادها الجمالية في اللغة, كلما حكمنا على الترجمة بأنها أمينةٌ للنص الأصلي بقدرٍ كبير؟! وبالتالي هل يصح لنا افتراض أنه كلما اقترب النص من ملامسة هذه الأبعاد الجمالية في لغتنا ابتعد أكثر عن النص الأصلي بكل خصائص لغته المتعددة؟! إذن هل يمكن لنا أن نعتبر هذه خيانة؟! ومن هذا الباب ألا تمثّل الترجمة كتابةً إبداعية موازية للنص الأصلي وليست مولودةً منه؟! ثم أليس من الصعوبة بمكان أصلا القبض على روح النص الأدبي مهما حاول المترجم ملاحقة النص وكاتبه مستعينا بذخيرة معرفية باللغة الأخرى وجانب لا بأس به من حياة الكاتب؟! ألا يكون هنا المترجم كمن يلاحق سرابا في بيداء لا تخوم لمتاهاتها؟!
ثم هنالك أمرٌ آخر يقف كقاطع طريق في منتصف هذه التساؤلات, وهو كيف نفسر توجه كاتبٍ ما إلى الكتابة بغير لغته الأم؟! كما فعل ميلان كونديرا مثلا عندما كتب نصوصه بالفرنسية عوضا عن التشيكية؟! أو إليف شافاق عندما كتبت باللغة الإنجليزية عوضا عن التركية؟! كيف يمكن لكاتب ما أن يُبدع نصا بلغة هو غير ملم بأبعادها التاريخية والحضارية مهما كان متقنا لها؟! هل يمكننا القول بأن الكاتب هنا هو المترجم ذاته للنص؟! بمعنى آخر , هل يمكننا أن نعتبر أن النص الأصلي ضائع في مهب الغياب وهذا الذي بين أيدينا هو نص مترجم لذلك النص الغائب مادام أن اللغة التي استعان بها الكاتب هي غير لغته الأم؟! أيمكننا أن نعتبر أن الكاتب هنا “خائن” كذلك؟! ثم أليس الرهان هنا هو قدرة الكاتب على الإمساك بناصية اللغة الأخرى من جذورها؟! ولكن بالرغم من كل هذه التساؤلات وجدنا أن بعض هذه النصوص التي كٌتبت بغير اللغة الأم للكاتب كانت نصوصا إبداعية وخلاقة؟! ترى ما هو السبب الجوهري وراء ذلك؟! ألا يمكن أن يكون انصهار روح الكاتب بكل أحاسيسها في أتون عشق هذه اللغة الأخرى والتماهي معها هو السبب الجوهري وراء هذا الإبداع؟! وهذا التساؤل يعيدنا إلى المترجم الآخر مرةً أخرى..هل يكفي بأن يكون مترجم النص الأدبي ملما باللغة الأخرى ميكانيكيا ليترجم لنا نصا أدبيا إبداعيا؟! ألا ينبغي على المترجم هنا ألا يترجم نصا واحدا مادام لم ينصهر في أتون عشق هذا النص وأبعاده اللغوية انصهارا كاملا؟! أي ألا يكون الرهان هنا سواء كان في الكتابة المباشرة أو الترجمة على حد سواء هو عشق اللغة بكل أبعادها الجمالية التي تساعد على إعادة تشكيل هوية عاشقها من جديد؟! ألا تكون الترجمة هنا ضرباً من التحليق في عوالم النص الهائلة بجناحين من عشقٍ ومهارة؟!
ومن هنا يمكن أن نتفهم رفض بعض الكتّاب وخصوصا الشعراء بعض التراجم لنصوصهم كما رفض شاعر ألمانيا العظيم ريلكه خمس ترجمات فرنسية عُرضت عليه لعمله الملحمي (أغنية عشق لحامل الراية) لأنها لم تُترجم ضمن “روحه الحقيقية” كما جاء في “كتاب الساعات وقصائد أخرى” لريلكه بترجمة كاظم جهاد.
ولكن, بالرغم من كل هذه التساؤلات التي تنبثق في سماء الترجمة مثل شهب ثاقبة, هناك حقيقة واحدة مسلّم بها, وهي أن الترجمة لا غنى لنا عنها, فهي إن كانت خير , فهي خيرٌ مضاعف, وإن كانت شر فهي شر لابدّ منه, وإلا كيف تسنى لنا نحن القراء أن نطّلع على إرث عظيم من الأدب النابع من الحضارات المختلفة؟!
منذ يومين، وأنا أتغرغرُ بالقصيدة كمن يوشك على الموت، لا أستطيع دفعها من حنجرتي إلى خارج جسدي الضئيل… ولا أن أبتلعها…فالوجع أكبر من ذلك كلّه..!! . . منذ يومين…و القصيدة تجرّحُ حنجرتي…يسألني من يحادثني مابه صوتك..؟! فأكذب عليه بأنّ السبب يكمن في أني لم أحدّث أحداً منذ أن استيقظتُ من النوم…..و أنا أخشى أن تفضحني حشرجتي بالقصيدة….فالوجع أكبر من ذلك كلّه..!! . . أحمل بباطن كفّي قرصاً صغيرا من تلك الأقراص التي تهدّئ دقّ مطارق الجنون في رأسي….أحدّق فيها كصائغٍ يحدق في جوهرةٍ ثمينة….وقبل أن أبتلعها.. تُسقطها على الأرض رعشةُ رعبٍ تسري في كفّي….وأنا أسمع قهقهات جنّ القصيدة التي أكاد أختنق بها…قهقهاتٌ تدفعني لجنونٍ أكبر من أن يهدّئهُ هذا القرص الصغير…فالوجع أكبرُ من ذلك كله…!! . . أخرج من المنزل…قاصداً المقاهي..علّني أرشو القصيدةَ بخمرة المتصوفة السوداء…ولكنني أعود إليه خائباً …أجرجر روحي التي أنهكها الركضُ خلف آثار ذلك الشيطان اللعين…شيطانُ القصيدة التي أغص بها الآن….آهِ يا صاحبي….الوجعُ أكبر من ذلك كله…!! . . أملأ حوض الإستحمام بالماء الدافئ…أذوّبُ فيه قِطعاً من الملح البحريّ…وأغطسُ فيه دقائق تعادل عمراً كاملاً أقضيه في سكينة الجنة…أغطسُ مغمض العينين…حالماً على وقع موسيقى الإسترخاء..أن أقفز من أعماق جنوني ..وأركض للعالم عارياً صارخاً في وجهه بكل ما تتّقدُ به خلاياي من بهجة الخلاص…لقد ..(وجدتها)…! ولكنّ الوجع أكبر من ذلك كله..!! . . ترقصُ روحي منتشيةً بالقراءة في مدار حلقةٍ من الكتب العظيمة، تمدّ شياطينُ الكتّاب أعناقها من أغلفة الكتب مثل زرافاتٍ وتصيح في وجهي : ..أيها المسكين..لا تطلب حلاًّ ولا تأمل بخلاص…فكلّ هذه الكتب كانت محاولةً عبثيةً لاحتواء كلّ هذا الوجع الذي تشعرُ به الآن….ولكن هيهات…فالوجعُ أكبرُ من ذلك كلّه..!! . . .
#حرفي
#عدنان_المناوس