عندما بدأ عرض مسلسل “Breaking Bad” عام 2008 شاهدتُ منه حلقتين. وتوقفت عن مشاهدته لأنني شعرتُ بالضجر!. ولكي أكونصريحاً معكم، أنا لستُ شغوفاً بالمسلسلات كثيراً كشغفي بالأفلام وإن كنتُ متابعاً لبعضها.
حينها لم أكن واعياً للعبة، أقصد اللعبة “الإخراجية” للمسلسل فضلاً عن فنّ “الإخراج” بشكلٍ عام.وعلى أية حال لم أُكمل متابعته. ولم أعدإلى مشاهدته مرةً أخرى إلا هذه السنة (2021) بعدما طاردتني ضجّته الإعلامية في كل زاوية من زوايا الحسابات “الانستجرامية” المهتمة بالسينما والمسلسلات ناهيك عن صورة (هايزنبيرغ) المعلّقة أو المرسومة على جدران بعض المقاهي، وكأن القدر يناديني لمتابعته من جديد!. فتابعتهُفقط لأُخرس صوتَ الفضول الذي يرنّ في رأسي كلّما لمحتُ تبجيلاً له في مكانٍ ما.
ولذلك شاهدته وأحببته.وإن كنتُ مازلت –في بعض النواحي الفنية وبعض ملامح العمق الانساني (فلسفيا، أدبيا وسيكولوجياً) – أُفضّلمسلسلات أخرى عليه ك (My brilliant friend ) و (Black Mirror )و ( Dekalog) وهي مسلسلات لم تحظ ربما بالمتابعة العالية مثل(Breaking bad). ولكنّي بعد متابعته أراه –من وجهة نظري– بأنهُ مسلسل عظيمٌ كذلك من نواحي عديدة كالإخراج ،المونتاج، التمثيل ،“الإيقاع” و “البعد السيكولوجي“. وهذان العاملان الأخيران هما ما أريد التركيز عليه في هذه المقالة الانطباعية البسيطة.
.
قبل الحديث عن هذين العاملين، اسمحوا لي بهذه اللمحة المختزلة لمن لم يتابع المسلسل.
القصة باختصار تحكي عن مدرّس كيمياء “نابغة” اسمه (والتر وايت) لعب دورها الممثل ( Brayan Cranston) وهو شخصية لطيفة وودودةمع أسرته والآخرين ويعيش حياةً روتينيةً بسيطة. ولكن تتغير حياته كلّياً بعد اكتشاف إصابته بمرض “السرطان“. فيبدأ بخوض تجربة طبخمخدِّر “الميثاميفتامين” ليُحقق الربح السريع لتأمين أسرته مالياً بعد وفاته بمساعدة أحد طلابه “الفاشلين” والمدمنين السابقين ” جيسيبينكمان” وهو “الممثل المساعد له ( Aaron Paul ).
مع تصاعد الحبكة يخرج الوضع عن السيطرة مع الدخول في عالم تجارة المخدرات فيأخذ البعد الدرامي للقصة منحىً أكثر تعقيداً مما كان يريده “والت” /”هايزنبيرغ“..!
.
* الإيقاع:
في فنّ الرواية –بشكلٍ خاص– تنقل الكاتبة بثينة العيسى هذا القول لأمبرتو إيكو في فصل (الكتابة الوصفية والإيقاع): ” إذا كان منالضروري أن يحدث شيءٌ هام ومشوق فعلينا أن نعتني بفنّ التهدئة!” وتستطرد الكاتبة بقولها : (وهذا يعني أنّ وجود مساحاتٍ هادئة منالنص، يُمكن أن يكون ضرورياً وملحاً، لإظهار “الحدث الهام و المشوق“. تماماً كما يحتاج الرسّامُ إلى الظل، ليُظهرَ الضوء، ويحتاجالموسيقيُّ إلى الصمت ليُبرز الصوت).*!
.
يُمكننا إسقاط هذا القول على المسلسلات والأفلام كذلك والمسلسل المعنيّ هنا (Braking Bad) استطاع أن يُحافظ بشكل هائل على الإيقاعمراوحاً بين الهبوط والصعود في الأحداث بشكلٍ دقيقٍ جداً. ولو كنتُ واعياً لأمر “الإيقاع” عند مشاهدتي له قبل سنوات لما كنتُ ربما توقفتُعن مشاهدته!
.
تبدأ الحلقات بمقدّمات لمشاهد إما من الماضي أو المستقبل ، وفي خلال الحلقة يتكشّف الربط الدقيق في الحبكة بين القصة وتلك المشاهدالتي عرضها لك المخرج في المقدّمة. والحلقات بدأت بالسير بهدوءٍرتيب، ومن ثمّ تصاعدت قليلاً لمستوى معين لتهبط بعد ذلك وتسير فيالرتابة وبعدها تتصاعد لمستوى أعلى قليلاً…ومن ثمّ تهبط وهكذا دواليك في جميع حلقات المواسم الخمسة من المسلسل.
.
الحِفاظ على الإيقاع بهذه الوتيرة غير المتسارعة كان مهماً هنا من نواحي عديدة وأهمها إبراز البُعد السيكولوجي ل “هايزنبيرغ” من العمقللمشاهد.!
.
* البعد السيكلوجي “النفسي“:
أرى أنهُ من الضروري هنا لصقل الصورة بشكلٍ جيد أن أنقل بعض المقاطع المهمة من كتاب (التخلف الاجتماعي) للدكتور مصطفى حجازيوالتي أرى أنها تنطبق تماماً على شخصية “هايزنبيرغ“.
يقول الدكتور في الفصل الثاني من الكتاب و المُعنون ب(الخصائص النفسية للتخلف) بأنّ هناك (مجموعة من العُقد تُميّز حياة الإنسانالمقهور، أهمها عقدة النقص، وعقدة العار، مع اضطراب الديمومة و اصطباغ التجربة الوجودية بالسوداوية.) ويتناول كلَّ جانب من هذه العُقدعلى حدة، ومما جاء فيها:
١– عقدة النقص:
(تميّز مشاعر الدونية بشكلٍ عام موقف الإنسان من الوجود.فهو يعيش حالة عجز إزاء قوة الطبيعة و غوائلها، وإزاء قوة السلطة على مختلفأشكالها. مصيره معرّضٌ لأحداث وتغيرات يطغى طابع الاعتباط أحياناً والمجانية أحياناً أخرى. يعيش في حالة تهديد دائم لأمنه وصحتهوقوّته وعياله. يفتقر إلى الإحساس بالقوة والقدرة على المجابهة الذي يمدّ الحياة بنوع من العنفوان ويدفع إلى الاحترام والمجابهة….إلخ)
.
لو أسقطنا هذا المقطع على شخصية “والت” لرأيناه ينطبقُ عليه.! “والت“..مدرّس الكيمياء الودود المسكين الذي يشعر بالضعف إزاء متطلباتالحياة ليؤمّن له ولأسرته حياةً كريمة فيضطر للعمل في مغسلة سيارات حتى يستطيع الوصول للحد الأدنى من الاكتفاء المالي ولكن بلافائدة.! “والت” المهمّش نسبياً من قِبل زوجته “سكايلر“. “والت” الذي يشعر بالغيرة من زوج أخت زوجته المحقق الجنائي “هانك” عندما يبدأباستعراض بطولاته أمامه وأمام ابنه المُعاق الذي يفخر بعمه “هانك” وبطولاته أكثر من أبيه! ….”والت” الذي كان محطّ سخرية أحد طلاّبهعندما قام “والت” بغسل سيارته في المغسلة التي يعمل فيها..! .”والت“.. الذي كان يسأل نفسه بضعفٍ ويأس عندما تم تشخيصه بسرطانالرئة “لماذا أنا؟!” وسأل السؤال ذاته عندما استجاب مرضهُ للعلاج الكيمائي بنسبةٍ عالية.!
.
٢– عقدة العار:
( عقدة العار هي التتمة الطبيعية لعقدة النقص. الإنسان المقهور يخجل من ذاته، يعيش وضعهُ كعارٍ وجودي يصعب احتماله. إنهُ في حالةدفاع دائم ضدّ افتضاح أمره، افتضاح عجزه وبؤسه. ولذلك فالسترةُ هي أحد هواجسه الأساسية(..) هاجس الفضيحة يُخيّم عليه “فضيحةالعجز أو الفقر أو الشرف أو المرض“…إلخ)*..!
.
هذه الطبيعة للإنسان المقهور كذلك نجدها متمثلةً في شخصية “والت” بعد أن اكتشف مرضه. حيث لم يُخبر أحداً بذلك بادئ الأمر ثمّ لماانتشر الخبر رفض أيّ “صدَقة” على حدّ تعبيره من أيّ شخص وبالخصوص ممّن أنشآ شركةً كبيرة وكان شريكاً مؤسسا معهما لها فيالماضي البعيد، ولكنهُ لأسباب خاصة انسحب منها مغبوناً وهو صفر اليدين ليعمل معلما براتبٍ لا يكفي حاجته!.
.
٣– مرحلة الاضطهاد:
….
(مع بروز التيار الاضطهادي ، تكون الحالة النفسية للإنسان، قد بلغت درجةً عالية من التوتر الانفعالي والوجودي العام. يدخل في مرحلة منالغليان الداخلي للعدوانية التي كانت مقموعةً بشدة، والتي بدأت تفلت من القمع وتطفو على السطح، بعد أن كانت مرتدةً إلى الذات من خلالأوالية التبخيس الذاتي، ومايرافقها من رضوخ مازوشي. إذ إنّ كل أواليات مرحلة الرضوخ تظل عاجزةً عن التصريف الملائم للتوتر العدوانيالناشئ عن القهر. إنها لا تفي بالحاجة إلى التوازن النفسي الضروري لأنّ الإنسان لا يمكنه احتمال التبخيس الذاتي بشكلٍ دائم. لابدّ لهمن الإحساس بشيءٍ من العزة والكرامة، بشيءٍ من الاعتبار الذاتي في نظر نفسه ونظر الآخرين…إلخ)*
.
نستطيع أن نقول أن مرض“والت” الخبيث هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير! إذ ألا تكفي كل صعوبات الحياة التي يمرّ بها حتى يهويعليه خبر مرضه كالصاعقة ليقع فريسةً لليأس؟!. اليأس الذي يدفعهُ لمحاولة الحفاظ على القيمة العليا لديه وهي “العائلة” بأيّ وسيلةٍ كانتحتى لو كانت هذه الوسيلة غير شرعية كالانخراط في تجارة المخدرات “الميثاميفتامين” على وجه الخصوص، وحتى إن عبّد الدرب إلى تلكالقيمة السامية بعشرات الجثث!
.
ولكن هل فعلاً انخراطهُ في هذا العمل فقط لأجل “العائلة” وتوفير الحماية المالية لها بعد موته؟! أم أنّ هناك سببٌ آخر يدفعهُ لمثل هذا“التمرّد” السافر؟!!
ربما نجد بعض الإجابة في الآتي :
٣– مرحلة التمرد و المجابهة:
…
(يمدّ العنف في مجابهة المتسلّط بنوع من الإحساس بالقوة، التي تُصبح رمز الحياة. المهمة الأساسية، أو المرحلة الحاسمة في هذه المجابهةهي في التغلب على خوف الموت!.)..إلخ*
.
“والت” عندما أصبح “هايزنبيرغ” الذي تحتاجهُ عصابات المخدرات لطبخ “الميث” الأزرق النقي الفريد من نوعه، صار يغريهُ الشعور بالقوةوالسلطة التي تعوّض عليه كل سنوات التحقير و التبخيس لذاته من نفسه ومن الآخرين.! عندما انخرط في هذا المجال كان من أجل “العائلة” لكنه تحوّل بعد ذلك إلى السبب الجوهري الذي دفعه للاستمرار فيه، وهو لأجل “ذاته” الضائعة التي وجدها ولمس قوتها وجبروتها في هذهاللعبة الشيطانية.! وقد قالها صراحةً لزوجته “سكايلر” في الحلقة الأخيرة من الموسم الخامس والأخير.! ولكن المشاهد المتتبع للتصاعدالنفسي ل“هايزنبيرغ” يتلمّس ذلك الانحراف في الغاية مع تصاعد الحبكة. ولذلك يرفض “هايزنبيرغ” خمسة ملايين دولار من قِبل احدىالعصابات لبيع مادة (الميثلامين) وانسحابه من السوق مجيباً مساعدهُ وشريكه “جيسي بينكمان” الذي يحاول إقناعه بقبول العرض بقوله : ( جيسي … سألتني إن كنت أعمل في صناعة المخدرات أم جني المال …. ولا واحد… أنا أعمل في مجال بناء (“امبراطورية“)!
وهذه الامبراطورية هي التي تمنحه الشعور بالاعتزاز والسلطة من العمق!
.
هل هذا كافٍ لأن يشعر بكرامة ذاته وسلطته القوية من العمق ؟!
لا…كان لابدّ أن يكون هناك من ضحية يُحافظ عليها ويبقيها معه دائماً لتصريف كلّ حنقهِ وغضبه وفشله الذاتي عليه، وهو شريكه “جيسي“. ذلك الطالب “الفاشل” كما كان ينعتهُ دائماً بهذا وأكثر حتى انفجر “جيسي” غاضباً وفرّغ كلّ غضبه عليه في عدة مشاجرات.
.
يقول الدكتور مصطفى حجازي في فصل (التماهي بالمتسلط) في ذات الكتاب:
(يتخلّص الإنسان المقهور من مأزقه من خلال قلب الأدوار. يلعبُ دور القوي المعتدي ويُسقط كلّ ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه. (..) من خلال التماهي بالمعتدي يستعيد الإنسان المقهور بعض اعتباره الذاتي، أو على وجه الدقة يصل إلى شيءٍ من وهم الاعتبار الذاتي. كما أنهُ يتمكّن من خلال هذه الأوالية من تصريف عدوانيته المتراكمة والتي كانت تتوجه إلى ذاته، فتنخرُ كيانهُ وتُحطم وجوده..)* إلخ
ولذلك عندما كان يتعامل مع أحد تجّار المخدرات (غوستافو فرينغ) وأبدل هذا الأخير “جيسي” بشخصٍ آخر تقريباً في مستوى ذكاء (والت) كمساعدٍ له، لم يُعجب “والت” هذا لأنه قد سُدَّ في وجهه قناة تصريف ضعفه الذاتي وغضبه من نفسه، فهو يريد شخص ك(جيسي) أقل منهذكاء واستيعاباً ليعطيه المجال لفتح قناة التصريف الذاتية هذه عليه بجانب محبته الصادقة التي يُكنها “والت” له من العمق!
.
ختاماً أودّ أن أشير إلى أنّ الإضاءة في أغلب اللقطات المركّزة على وجوه الشخصيات في غالبها كانت تضيء نصف الوجه ، والوجه الآخريغوص في الظلال أو العتمة! وكأنّ المخرج بهذه اللعبة “اللونية” إن صحّ التعبير يُريد التعبير مجازياً عن الصراع الأزلي لغريزتي الخيروالشر في ذات الإنسان. فتأمّل يا رعاك الله..!!
.
انتهى
.
هامش:
*التقطتُ الرسمة الجدارية ل“هايزنبيرغ” في مقهى “حكاية قهوة” الكائن ببلدتنا “المركز” الأحسائية.
.
#حرفي
#braking_bad
#تصويري
#حكاية_قهوة
#المركز