الكاتب: عدنان المناوس

حفّار قبور القرية الوحيد!


((إذنْ…مالذي سوف أفعلهُ لو بقيتُ وحيداً في آخر العمر؟!))
.
لا أدري كيفَ التمعَ هذا السؤالُ فجأةً كالبرق في خاطري فأوقف الزمنَ في عينيّ لحظةً ممتدةً بامتداد الأبدية وأنا أتسامرُ مع بعض الأصدقاء في مقهى (كريسبي كريم) الكائن في البلدة المجاورة لقريتي الوادعة!
كنتُ أحدّق في قهوة أحدهم عندما تلاشتْ صورتها شيئاً فشيئاً وحلّت مكانها صورة ذلك العجوز الذي التقيتهُ ذات يوم ظهراً و شمسُ الصيف الحارقة تغسل جبينه بالعرق !
.
كان جالساً وحيداً ..مُعدماً..على مصطبةٍ في (دروازة) القرية التي كان يومياً يلتقي في ساحتها بأصدقائه الذين حملهم واحداً واحداً إلى قبورهم قبل أن يُثقل رأسهُ الفقدُ ويُصاب (بجلطةٍ) أقعدته عن حفر القبور….!
العمل الذي كان يُتقنهُ في حضرة الموت!
.
كان جالساً وحيداً…عيناه شاخصتان في الفراغ، ترى ولا ترى ..! تجاعيدُ وجههِ الكثيرة بعدد أصدقائهِ الذين كلّما رحلَ واحدٌ منهم حفرَ على وجهه أخدودَ حزنٍ تجري فيه دموعه المالحة! حتى لم يبقَ مكانٌ في وجهه لأخدود آخر..!!
.
أوقفتُ سيارتي ونزلت للسلام عليه، قبّلت رأسهُ وكأنني أقبّل أوجاعهُ واحداً واحداً، وذكرياته التي لا تشيخ مع المرحوم جدّي (عبدالله) الذي كان من أقرب الأصدقاء إليه..
صديقُ العمر والسفر والشاي والسجائر..!!

بالكاد تعرّف على ملامحي، سألني ليتأكّد…(انت عدنان يبه)..؟! جاوبته بالتأكيد، وعيناي تتفحصّان آثار الزمن المرّ على وجهه وذاكرته، وروحه التي كانت تنشر الفرح والضحك بنكاته التي كانت تقاوم تقدّم قطارَ عمره لمحطّات الكهولة…!
حتى اجتاحهُ الزمنُ بجيشه الجرّار وتركهُ قلعةً مدمّرةً، تحاول أن تحافظ على آخر حجرٍ سليمٍ فيها!
.
ودّعتهُ وحشرجةٌ مسنونةٌ كسكينةٍ حادّة تكاد تقطّع حبالي الصوتية، ودمعٌ مثقلٌ بالذكريات الطفولية معه يكاد يفيض على وجنتيّ!
.
أيقظتني من هذه الذكرى الموجعة دمعةٌ فرّت من احدى مقلتيّ مثل عصفورةٍ فرّت من قفص متآكل واستقرّت على ظهر كفّي اليُسرى…رفعتُ رأسي أتفحصُ المكان والزمان من حولي…ولا أدري كذلك كيفَ تراءى لي أنّ ملامحَ المكان والزمان تغيّرت…!
النادلُ الذي ابتسمَ في وجهي ابتسامةً شاحبة وكأنه كان يقرأ أفكاري رأيتُه وكأنه قد كبُر أربعينَ سنة في طرفة عين..! وأنا …..
كنتُ وحيداً….!!
نعم…
كنتُ وحيداً في هذا المقهى مثل ذلك الرجل العجوز…أسترجعُ ملامحَ الأصدقاء الذين كانوا هنا قبل هذه الذكرى….وقلبي يُرددُ ما قاله محمود درويش ذات فقد…:
((
إنْ أعادوا لكَ المقاهي القديمة

من يُعيدُ لك الرفاق..؟!!))
.

(كُتب النص عام 2019، وانتقل الحاج (صالح المخيدير ) إلى رحمة ربه عام 2021)

(1987)


اللعنة، إنه الاستيقاظ من جديد!
قبل قليلٍ كنتُ أحيا ثلاث حيوات متوازياتٍ في لحظة واحدة!
.
حسناً، سأتوقف هنا لأحدثكم عنّي قليلاً،
اسمي لا أعرفه! لكنّني صدفةً وجدتُ شخصاً يناديني بهذا الرقم (1987)، وكأني بكم تتساءلون من هو هذا الذي ناداك ؟! حسناً لا أعرف من هو أيضاً، إذ فجأةً وجدتُ نفسي في غرفةٍ أعتقد أن مساحتها أربعة أمتار في ثلاثة (فكيف لي أن أكون متأكداً من ذلك بحق الرب وأنا ليس عندي ما أقيس به مساحة الغرفة غير عينيّ والانفراجة الضيّقة بين الخنصر والإبهام!)جدران الغرفة مطليةٌ باللون الأصفر الشاحب، أو هكذا أعتقد! نافذةٌ يتيمةٌ على الجدار الشماليّ للغرفة تُطلّ على العدم!
مرحاضٌ قذر، طاولةٌ خشبيةٌ صغيرة مهترئةٌ بجانب سريري عليها دفتر ملاحظاتٍ صغير وقلم رصاص هو هذا الذي أدوّن به هذه المذكرات في الدفتر.
.
دخل عليّ ذلك الشخص بثيابه البيضاء وناداني يا (1987) قف، فوقفت، اخلع ملابسك، فخلعت، وضعَ سمّاعةً تشبه تلك التي يستعملها الأطباءُ لجسّ النبض على صدري، فحصَ أسناني وفكّيّ بيد وبالأخرى قلمُ إضاءة أصفر صغير مصوِّبا فوهتهُ داخل فمي مثل مسدّس!
جسّ خصيتيّ بكلتا يديه وكأنه يزنهما، ثمّ دوّن بعض الملاحظات على ورقةٍ كان يحملها معه ورحل!
.
بقيتُ وحيداً في هذه الغرفة الشاحبة منذ أن غادر وحتى هذه اللحظة التي قرّرتُ أخيرا أن أكتب قصّتي فيها.لا أدري كم قضيتُ من الوقت ، بضعة أيام، أسابيع ، شهور، اللعنة لم أعد أشعر بالزمن! فكل ما أفعله هنا هو أكل الطعام -إن كان ذلك الحساء الكريه والرزّ البائت الذي يُقدّمُ لي من فُرجةٍ في الباب الحديدي يُسمّى طعاماً!-وقضاء حاجتي في ذلك المرحاض القذر والنوم على هذا السرير الذي تتغذّى فيه حشرات (البقِّ)على دمي.
.
في البداية كنتُ منزعجاً من كل هذه الأمور الغامضة كانزعاجكم الآن من ثرثرتي الطويلة! إلا أنني وجدتُ حيلةً للهروب من هذا الجحيم متى ما أردت، ألا وهي (الأحلام)!
فصرتُ أنام كثيراً محاولاً قلبَ المعادلة، ليكون الحلم هو حقيقتي الواقعية ،والواقع كذبة الحلم العابرة!
يُقال -حسب بعض النظريات العلمية- بأنه هناك عوالم موازية، وأنه بالإمكان زيارتها من خلال (السفر عبر الزمن)! حسناً أنا لستُ بعالمٍ ولا أهلٌ للعلم حتى، ولكني أعتقد بأنّني وجدت طريقتي لزيارة تلك العوالم من خلال الأحلام!
.
ما أزعجني بدايةً هو عدم وضوحها، إذ كانت تمرُّ عليَّ سريعة فأستيقظ دون تذكر أيّ شيءٍ منها، ولكني بعد تمرينٍ كافٍ على قوّة التركيز والتأمل بتّ أميّز تلك العوالم التي أزورها في الأحلام حتى أكاد أتحسسها بيديّ!
.
ولكي تتضح الصورة أكثر سأعرض عليكم مثالين من تلك العوالم الموازية، مرةً حلمتُ بأنني أعمل مع “لويس بانويل” -المخرج الأسباني الذي أحبه- على تصوير فيلم سوريالي، كنا في ذلك العالم الموازي نصور مشهداً يلتقي فيه مولانا (جلال الدين الرومي) ب(أندريه بريتون) فيدور بينهما حوار عشقٍ صوفيّ/سوريالي أو باختصار كما أسميناه أنا وصديقي العزيز “لويس” في الحلم (صوفريالي)، وهو حوارٌ ترونه بدل أن تسمعونه! بمعنى أنكم كمشاهدين ستشاهدون صوراً كثيرة تخرج من بين شفاههما بدل الكلمات، إلا أن الحلم انتهى -للأسف- بعد أن عطس “لويس” عطسةً مزمجرةً قطعت المشهد و زلزلت الباب الحديدي للغرفة فاستيقظت!
.
ومرةً حلمتُ بأنني زوج الفاتنة “مارلين مونرو”! كنا نتمشى في (بولڤار سان جيرمان) بباريس فوجدتُ مقهى (دي فلور / De flore) وهو المقهى الشهير الذي كان يترددُّ عليه الوجوديّون، سارتر وحبيبته المزعومة سيمون دي بوفوار و ألبير كامو وغيرهم، فطلبتُ منها برغبةٍ غامضة وملحة أن نستريح فيه قليلاً ونحتسي قهوةً سوداء مُرّةً!. وافقَت فجلسنا على احدى الطاولات التي ادّعى النادل أنّ هؤلاء الشياطين كانوا يتحلّقون عادةً حولها ويتداولون أفكارهم الوجودية ثقافةً وأدباً وسياسةً، فوجدتني فجأةً وقد شعرتُ بغثيان “سارتر” الوجودي يدبُ في أحشائي من هذه التفاهات الثلاث بأنني أضاجعها على طاولة المقهى وجمهورٌ غفيرٌ من حولنا يصفقون ويصفرون،حتى أيقظتني عضّةُ حادةٌ منها على احدى أذني!
.
على أية حال -إن كان هناك حال- صرتُ أنام كثيراً، وجدتُني أحيا في الأحلام الحيوات التي أريدها، وجدتني أجرّبُ نفسي في أكثر من حياةٍ وأكثر من عالم! كنتُ في الأحلام الكاتب والمُخرج والممثل في آن!
حتى اشتبهت هويتي الحقيقيةُ عليّ!
.
أعود إلى ذلك الحلم الذي حلمتهُ قبل أن أستيقظ الآن وأُشرع في تدوين هذه الثرثرة، قلتُ لكم أنني في ذلك الحلم كنت أعيشُ ثلاث حيوات متوازياتٍ في لحظةٍ واحدة!

كان حلماً غريباً….كنتُ جالساً وسط مرجٍ أخضر محاطاً بالورود حاملاً في كفّيَّ حمامةً بيضاء وفي الوقت نفسه كنتُ حمامةً بيضاء أشاهدُ رجلاً مشوهاً دون ملامح يحملني بكفيه وهو جالسٌ وسط الجحيم، على جبهته مطبوع الرقم (1987) يصغي إلى صوت شخصٍ آخرٍ قادم -هو صوتي تماماً- ينادي:

يا (1987) قف….فوقفت!
.
.
انتهى

#عدنان_المناوس

#قصة_قصيرة

(النص المعنّف)

(النص المعنف)

(في نقدالنقد المدرسيومواضيع أخرى)!

.

يتضمّن كتاب (النص المعنف) الصادر في طبعته الأولى عن دار مدارك عام 2020 للكاتب التونسي عبدالدائم السلامي ثلاثةَ فصول توزّعت بين المئة والثمانين صفحة في كتابه. وهي معنونة كالتالي : (ما قاله القارئ) وفيه يتطرّق إلى مقترحاتكما يراهاأنها تصلح (لحسن التعاطي مع لحظتنا الراهنة، منها ما اتصل بالنص الروائي ذاته من حيث قراءته، وفن إخراجه، وبلاغة جُمله)*.

وتطرق في الفصل الثاني والمعنون ب (مالم يقله الروائي) إلى مقالات ركّزت على ما لا يُصغي له روائيونا العرب بالتحديد في رواياتهم حيث ينصب تركيز الروائي على ماتراه العين وتُهمل ما لاتراه بالرغم من أن هذا الذي لا تراه قد يكون أكثر ثراءً للنص من الجوانب الفنية وأعمق غوراً في المضمون.وختم الكتاب بفصل (قراءات) والذي جمع فيه بعض قراءاته النقدية لبعض الروايات العربية.

.

في هذه المراجعة سأركّز على أمرين من هذه الأمور العديدة التي تطرّق لها الكاتب في كتابه البديع وهي أولاً تناوله للنقد الأكاديمي ومقارنته بالنقد الانطباعي و ثانياً مناقشة فكرة (الإخراج الروائي).

يُمهد الكاتب للقارئ في كتابه عن الرؤية النقدية التي سيبني عليها كتاباته الموزعة في الفصول الثلاثة بقوله : ( هذا الكتاب زاهدٌ في كلّ نزوع علمي. إن نزوعه ممزوجٌ بلُطفٍ عقليوهو اقتراحٌ ابتعد فيه عن جفاف البحوث وأرثوذكسيتها المنهجية)* أي أنّ الرؤى النقدية المطروحة في الكتاب هي رُؤى انطباعية وهي السبيل الذي ارتآه الكاتب إلىحب ما يقرأ“.هذه الرؤية هي انتصار للنقد الانطباعي على النقدالأكاديمي باعتبار أن النقد الانطباعييُدللالنص بقراءته وتفكيكه عن حب غير مشروط وقراءة حرة، بينما النقد الأكاديمييُعنّفالنصَّ بتنظيراته الجاهزة التي يأتي بها الناقدُ إلى النص بُغية تشريحه وتفكيكه وتطبيق القوالب النقدية الجاهزة عليهقسرا، حيث أنّ المنهج النقدي الأكاديمي يوجّه الناقدبوعيٍ منه أو دون وعيإلى ما تريدهُ هذه النظريات لا ما يريده النص والقارئ الحر!

يقول الكاتب في المقال الأول من الفصل الأول والمعنون ب( أن نُحب ما نقرأ) : ( وأزعمُ أنّ مايسميه الأكاديميونقراءةً منهجية” <قراءةالأساتذة> هي في رأيي قراءة تعليمية، كلّ فضلها أن تدرّب الطلبة على النصوص. وهي خارج مجال التعليم، أفسَدُ قراءات الأدب لأنها تُعنّف النص، وتُحقق فيه أحلام المنهج لا أحلامه هو)*. وهي نقطة جديرة بالاهتمام ليس فقط على الصعيد الروائي بل الشعريّ والفني بشكل عام.

وهنا أرى من الجميل المقاربة بين هذه الرؤية النقدية/الروائية وبين الرؤية النقدية/الشعرية التي جاءت في كتاب (زمن الشعر) للشاعر الكبير أدونيس.

يقول أدونيس في فصل (الكتابة الجديدة/النقد الجديد) : (يسير النقد العربي السائد ضمن اتجاهين رئيسيين : مدرسي وأيديلوجي.

…..

النقد الجديد هو في الخروج عن هذين الاتجاهين: لا يصدر عن موقف إيديلوجي مسبّق يتحكّم به، ولا عن موقفٍ مدرسيٍّ يضيق أفقه، وإنما يحاول أن يقرأ النص بذاته، ويقدم هذه القراءة بوصفها احتمالاً نقدياًتقويمياً، من احتمالات عديدة.

..

هكذا يحاول النقد الجديد أن يكتب <نصاً ثانياً> على النص الأصلي..)*

.

إذن رأينا كيف رجَحت كفة النقد الانطباعي على النقد الأكاديمي أو المدرسي الموجّه في كلا الحقلين (الروائي و الشعري) بحسب رأي عبدالدائم وأدونيس وهو الرأي الذي أميل له شخصياً كذلك في هذين الحقلين الإبداعيين وحقول فنية أخرى كالسينما.

الإخراج الروائي :

يطرحُ الكاتب هنا فكرة جديرةً بالاهتمام وهي فكرة وجود (المخرج الروائي) على غرار (المخرج السينمائي). وهذه الفكرة قد تسدّ مكان المُحرّرالشاغر في معظم دور النشر العربية التي حتى وإن وُجدالمحررفيها فغالبا هو يؤدي وظيفةًميكانيةلا إبداعية تمشي بالتوازي مع الكاتب في خلق عملٍ إبداعي يظهر للمتلقي في أبهى حلّته مكتمل العناصر الفنية أو يكاد من ناحية الحبكة واللغة وغير ذلك منالجماليات الفنية.

يقول الكاتب : ( لا بدّ منفنٍّمتصلٍ بكتابة الرواية، يسعى بها إلى كمالها الأدبي، ويُنجز على مخطوطها قبل نشرها، ويقوم به شخصٌ ذوكفايات قرائيّة سأفصّل القول فيها لاحقاً، ويُمكن أن أسميه : المُخرج الروائي)*!

والمخرج الروائي هو بالضرورة سيكون القارئ الأول للعمل وهو موجودٌ بشكله الخفيّ وببعض مهماته بشكل أو بآخر إلا أنه كما يقول: ( يبدولي حان الوقت لإظهار دور المُخرج عبر تحديد ملامحه ومهامّه)*.

ومن ثمّ يُفرّق هنا بين المُخرج الروائي والمحرًر الأدبي بقوله : ( فمن ملامحالمُخرج الروائيأنه يختلف عن المحرّر الأدبي (بمفهومه الجاري في استعمالنا) وإن اشتركا في بعض المهمات. وصور هذا الاختلاف أن المُخرج الروائي يكون في تواصلٍ مباشرٍ مع كاتب الرواية دون واسطةٍ إدارية، حيث تجيئه الرواية باختيارهابرغبةٍ من كاتبها، بينما يكون المحرر الروائي موظفاً لدى مؤسسةٍ ذات اهتمام أدبيمثل دور النشر وغيرهاوهي التي تفرضه على الرواية أو تفرضها عليه. يُضاف إلى ذلك أنّ المُخرج الروائي يُنجز مهمتهُ متطوعاً ومدفوعاً بعشقه الأدب، وغايته هي تحقيق متعة مخالطة النصوص الأدبية، فهو يشتغل ضمن سياق عشقيٍّ إتيقي يُرضي فيه الرواية لتُرضي قرّاءها، في حين يشتغل المحرر الأدبي على الرواية وغايته هي الاسترزاق منها حتى وإن كان مُحباً للأدب أو كاتباً له، أي يشتغل ضمن سياق تجاري حسابيّ يُرضي فيه مُشغّله.)* إلخ

.

شخصياً أؤمن بأهمية وجودالقارئ الأوللكل كاتب لأنّ الكاتب مهما بلغت عظمته يحتاج لعيون أخرى تضيء له النقاط العمياء التي لم يستطع كشفها وقت كتابته أو مراجعته الذاتية للنص، ولكن ليس كل كاتب للأسف يتوفر لديهالقارئ الأول، وفي ظل ضعف العملية التحريرية التي ابتُلي بها الكاتب العربي في العديد من دور النشر، تكون فكرة (المخرج الروائي) هنا فكرة ناجعة وذات غنىً للكاتب والقارئ معاً في آن، للكاتب من حيث تجويد النص وتشذيبه من النواحي الفنية ليظهر النص بأبهى حلّته، وللقارئ من حيث المتعة والفائدة التي سيجنيها من قراءة هذا العمل الإبداعي الذي ظهر نتيجة اشتغال جاد ومراجعة دقيقة.

.

ختاماً، استمتعتُ كثيراً بقراءة هذا الكتاب البديع و بلغة الكاتب الأدبية الرشيقة ذات الإيقاع الجاذب التي من خلالها فتح لي آفاقاً باعثةً علىالتأمل في أبعادها ، وماتركيزي على هاتين الفكرتين إلا غيض من فيض مايحتويه هذا الكتاب من جمال وثراء معرفي و أدبي رفيع.

.

انتهى

.

.

#عدنان_المناوس

#النص_المعنف

#مراجعة_الكتب

#عبدالدائم_السلامي

#اقرأ

تساؤلات في حضرة “الترجمة”


 

 

الترجمة بمنظورها الواسع هي جسرٌ مهمٌ يربط بين الشعوب المختلفة وثقافاتها عن طريق نقل المعارف المختلفة بينها. وكنتيجة لذلك يؤثر هذا النقل المعرفي على الرؤية الكونية بمختلف تفرعاتها العلمية, الأيديولوجية والدينية على حضارات وثقافات الشعوب المختلفة على مستوى العقل الجمعي و الفردي على حد سواء. وأثر الفلسفة اليونانية على الفلسفة الإسلامية نتيجة الترجمات التي قام بها الكندي والفارابي وابن رشد لأفكار “أفلاطون” و “وأرسطو” كما تشير بذلك بعض الدراسات مثالٌ واحدٌ من أمثلة يصعب حصرها.  

.

أما إذا ما تطرقنا للترجمة الأدبية, فأول ما يتبادر إلى الذهن المثَل المتداول ذو الجذور الإيطالية والقائل بأن “الترجمة خائنة” وتكاد هذه العبارة تتمزق أطرافها من فرط الشد و الجذب بين المتجادلين في حضرتها بين مؤيد ومعارض وحيادي. وهذا أمرٌ شرعي مادام النص الأدبي ينبع من روح الكاتب المحملة بكل ما يختلج في لاوعيهِ من إرثٍ ثقافي خاص وذاكرة لا تخص أحدا سواه.!

 

ولكن عند قولنا أن فعل الترجمة هو فعل “خيانة” فما هو المعيار الصلب الذي يستند عليه قولنا هذا؟! ما دام النص الأصلي في الغالب غائبٌ عنّا لغة كعتبة أولى للنص, بالإضافة إلى عدم الإلمام بالإرث الثقافي والحضاري لكاتبه؟! أليس لكل لغة خصائص تميّزها عن باقي اللغات الأخرى؟! وبالتالي أليس معيارنا في هذا الحكم نابعٌ من هذه الخصائص التي نتكئ عليها في لغتنا الأم بشكلٍ لاواعي بكل ما تحمل هذه المعايير من أبعاد جمالية؟! أي أننا في الحقيقة كلما وجدنا النص المترجم يقترب من روحنا الأدبية وأبعادها الجمالية في اللغة, كلما حكمنا على الترجمة بأنها أمينةٌ للنص الأصلي بقدرٍ كبير؟! وبالتالي هل يصح لنا افتراض أنه كلما اقترب النص من ملامسة هذه الأبعاد الجمالية في لغتنا ابتعد أكثر عن النص الأصلي بكل خصائص لغته المتعددة؟! إذن هل يمكن لنا أن نعتبر هذه خيانة؟! ومن هذا الباب ألا تمثّل الترجمة كتابةً إبداعية موازية للنص الأصلي وليست مولودةً منه؟! ثم أليس من الصعوبة بمكان أصلا القبض على روح النص الأدبي مهما حاول المترجم ملاحقة النص وكاتبه مستعينا بذخيرة معرفية باللغة الأخرى وجانب لا بأس به من حياة الكاتب؟! ألا يكون هنا المترجم كمن يلاحق سرابا في بيداء لا تخوم لمتاهاتها؟!  

ثم هنالك أمرٌ آخر يقف كقاطع طريق في منتصف هذه التساؤلات, وهو كيف نفسر توجه كاتبٍ ما إلى الكتابة بغير لغته الأم؟! كما فعل ميلان كونديرا مثلا عندما كتب نصوصه بالفرنسية عوضا عن التشيكية؟! أو إليف شافاق  عندما كتبت باللغة الإنجليزية عوضا عن التركية؟! كيف يمكن لكاتب ما أن يُبدع نصا بلغة هو غير ملم بأبعادها التاريخية والحضارية مهما كان متقنا لها؟! هل يمكننا القول بأن الكاتب هنا هو المترجم ذاته للنص؟! بمعنى آخر , هل يمكننا أن نعتبر أن النص الأصلي ضائع في مهب الغياب وهذا الذي بين أيدينا هو نص مترجم لذلك النص الغائب مادام أن اللغة التي استعان بها الكاتب هي غير لغته الأم؟! أيمكننا أن نعتبر أن الكاتب هنا “خائن” كذلك؟! ثم أليس الرهان هنا هو قدرة الكاتب على الإمساك بناصية اللغة الأخرى من جذورها؟! ولكن بالرغم من كل هذه التساؤلات وجدنا أن بعض هذه النصوص التي كٌتبت بغير اللغة الأم للكاتب كانت نصوصا إبداعية وخلاقة؟! ترى ما هو السبب الجوهري وراء ذلك؟! ألا يمكن أن يكون انصهار روح الكاتب بكل أحاسيسها في أتون عشق هذه اللغة الأخرى والتماهي معها هو السبب الجوهري وراء هذا الإبداع؟! وهذا التساؤل يعيدنا إلى المترجم الآخر مرةً أخرى..هل يكفي بأن يكون مترجم النص الأدبي ملما باللغة الأخرى ميكانيكيا ليترجم لنا نصا أدبيا إبداعيا؟! ألا ينبغي على المترجم هنا ألا يترجم نصا واحدا مادام لم ينصهر في أتون عشق هذا النص وأبعاده اللغوية انصهارا كاملا؟! أي ألا يكون الرهان هنا سواء كان في الكتابة المباشرة أو الترجمة على حد سواء هو عشق اللغة بكل أبعادها الجمالية التي تساعد على إعادة تشكيل هوية عاشقها من جديد؟! ألا تكون الترجمة هنا ضرباً من التحليق في عوالم النص الهائلة بجناحين من عشقٍ ومهارة؟!  

ومن هنا يمكن أن نتفهم رفض بعض الكتّاب وخصوصا الشعراء بعض التراجم لنصوصهم كما رفض شاعر ألمانيا العظيم ريلكه خمس ترجمات فرنسية عُرضت عليه لعمله الملحمي (أغنية عشق لحامل الراية) لأنها لم تُترجم ضمن “روحه الحقيقية” كما جاء في “كتاب الساعات وقصائد أخرى” لريلكه بترجمة كاظم جهاد.

 

ولكن, بالرغم من كل هذه التساؤلات التي تنبثق في سماء الترجمة مثل شهب ثاقبة, هناك حقيقة واحدة مسلّم بها, وهي أن الترجمة لا غنى لنا عنها, فهي إن كانت خير , فهي خيرٌ مضاعف, وإن كانت شر فهي شر لابدّ منه, وإلا كيف تسنى لنا نحن القراء أن نطّلع على إرث عظيم من الأدب النابع من الحضارات المختلفة؟!

بقلم عدنان المناوس

(الجحيم)

قراءة في رواية الجحيم لهنري باربوس

.

(كنتُ أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم). خبطت رأسي هذه العبارةُ مثل حجر، عندما كنتُ أقرأ الفصل الأول من كتاب (اللامنتمي) للكاتب الإنجليزي كولن ولسون، حيث صدمتني هذه الجملة وأنا أقرأ ما اقتبسهُ الكاتب من رواية الجحيم لـلكاتب الفرنسي هنري باربوس. فتوقفتُ قليلا، وأعدتُ قراءة المقطع المقتبس من جديد كاملاً، متأملاً في شخصية البطل من العمق. وأنا الممسوس بقراءة الروايات التي تتناولالشخصيات الغريبة والنافرة من المحيط الاجتماعي والنفسي الساكن والرتيب. وهي ذات الشخصيات التي صنّفها كولن ولسون بالشخصيات (اللامنتمية). فعرفتُ حينها لماذا شدّتني شخصية (روكانتان) في (الغثيان) لسارتر أو (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لكامو أومعظم أبطال (دوستويفسكي) الروائية وغيرها. ولكن لماذا اخترتُ الكتابة الآن عن رواية (الجحيم) وبطلها على وجه التخصيص؟! لأنها الرواية التي جعلتني (أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم!).

.

صدرت الرواية الأصلية بلغتها الفرنسية عام 1918م بينما الطبعة المترجمة التي قرأتها لها كانت صادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2016م بترجمة رائعة للكاتب والمفكر اللبناني جورج طرابيشي.

كُتبت الرواية من وجهة نظر بطلها المضطرب الكئيب والذي ظلّ بلا اسم ولا انتماء طيلة الرواية في سرده للأحداث بضمير المتكلم. وكأنالكاتب كان يريد بعدم تسميته، أن يذلّل كلّ حاجزٍ يحول بين القارئ وبين العيش في أجواء القصة والذوبان في ذات بطلها حدّ الاتحادوالحلول، فيذوق حينها كلّ عذابات بطل الرواية ووحشته الهائلة. تلك الوحشة التي يصفها الكاتبُ على لسان شخصيته بقوله: (إنني ألمحُ فيهذا الجو الذي أخذ الظلام باجتياحه، بروز جبهتي وبيضوية وجهي، وتحت جفنيّ الراف نظرتي التي أدخل بها إلى ذاتي وكأني داخل إلى قبر!).

جاء صوتُ الراوي في الرواية بصيغة (ضمير المتكلم)، وأراه هنا مناسبا تماماً لنقل وجهة نظر الرواية للقارئ من بين تقنيات الأصواتالروائية الأخرى لسببين رئيسيين:

أولاً: بطل الرواية كان يراقب حيوات بشرية متعددة تمرُّ عليه من ثقبٍ في جدار غرفته يطل على الغرفة المجاورة في أحد نُزل باريس. وهي المكان الذي أغراه بلعب دور الإله في مراقبة العابرين الذين ينزلون في تلك الغرفة مؤقتا ويمضون وهم لا يعلمون أن هناك عيناً تراقبهم من ثقبٍ في الجدار سوف يحكي صاحبها ما جرى بينهم هناك بالتفصيل على شكل رواية. لذلك كان صوت بطل الرواية هو الأنسب لسرد تلكالأحداث من وجهة نظره.

ثانياً: في روايةٍ كهذه تتكأ على البعد السيكولوجي لبطلها اتكاءً شبه تام، أرى أنّ (ضمير المتكلم) يساعد بشكلٍ أعمق على الإمساك بتلابيب القارئ وجعلهِ يغوص لاشعورياً في أمواج الاضطرابات السيكولوجية العاتية في أعماق الشخصية الروائية ليسبر أغوارها المخفية خلف الكلمات بحيث يّمحي الحدُّ الفاصل بين العالم الروائي والعالم الواقعي فتسكن القارئَ الشخصيةُ الروائية حتى بعد انتهائه من قراءة الرواية بقدر ما استطاعت هذه الشخصية أن تجرّهُ إلى أعماقها.

أما من ناحية (الحوار)، والذي يشكّل أحد أهم الأركان التي يقوم عليها بناء الرواية بشكل عام. نجد أنَّ الحوار في طابعه العام هنا ينقسمإلى قسمين: الحوارُ الداخلي بين البطل ونفسه (المونولوج)، ونقل الحوارات التي يسترق السمع لها عند اختلاسهِ النظر للشخصيات القاطنة في الغرفة المجاورة من خلال ثقب الجدار.

وفي كلا الأمرين، لم أجد هناك حشواً أو ترهلاً باعثا للمللِ في الحوارات، بل ظلَّت تتدفق في جسد الرواية تدفق الدماء في الشرايين حيثالحوار في أيِّ روايةٍ هو (الشريان الذي يمد الرواية بالحياة) على حدّ تعبير الكاتب عبدالرحمن منيف والذي نقلتهُ الكاتبة بثينة العيسى فيكتابها (بين صوتين). وقد تمّ ذلك من خلال تحقيق شرطين مهمين في الحوار حددتهما الكاتبة الإيرلندية إليزابيث بوين بقولها إنه (يجب علىالحوار أن يدفع بالحبكة، وأن يعبّر عن الشخصية) كما نقلت عنها بثينة العيسى في ذات الكتاب.

وأقتبس هذا كمثال على ذلك:

(هل أنا سعيد؟ أجل، إنني لا أعيش في حداد، ولا في حسرات، وليست بي رغبةٌ معقدة. إذن أنا سعيد، إنني لا أذكر أنه كانت تنتابني منذأن كنتُ طفلاً إشراقات من العواطف، إشفاقات صوفية، حبٌ مرضي لحبس نفسي بمفردي مع ماضيي).

والتوظيف الوصفيّ في الرواية لا يقلُّ شأناً عن الحوار كذلك، فالوصف هنا يشدُّ القارئ لأحداث الرواية بحبلٍ لا يترهل ولا ينقطع. إذبالأسلوب الوصفيّ المدهش والخلاّق للكاتب يُصبح القارئُ ذاتهُ جزءاً من الحدث بمشاركته حسياً فيه. وهي الغاية المنشودة من الوصف كمايرى الكاتبُ الأمريكي ستيفن كينج (بأنَّ الوصف هو وسيلتك لجعل القارئ مشاركاً بحواسه في الحكاية، الخدعة أن تجعله يرى ما يحدثويسمعه ويشمه) في كتابه (عن الكتابة: ذكريات عن الصنعة/ On writing: A memoir Of the Craft ).

ولنأخذ هذا المشهد من الرواية كمثال:

(أشعلَ سيجارةً، لمحتُ أساريرهُ التالفة، لحظة أضاءها البصيصُ الصغير السريع وحطَّ عليها كقناعٍ متوهج، ثم دخّن في القمة الشفافة، ولم أكن أميز إلا السيجارة الملتهبة التي تحركها ذراعٌ مبهم، خفيفة كالدخان الذي تنفثه، وحين كان يقرّب السيجارة إلى فمه، كنتُ أرى نورَ زفيره الذي سبق ورأيتُ ضبابه في رطوبة المكان).

.

ختاماً، احدى مأثورات كافكا تقول: (على الكتابِ أن يكون الفأس التي تكسرُ البحر المتجمد فينا) وأرى بأن رواية (الجحيم) هنا على مختلف الأصعدة الأدبية، الثقافية، السيكولوجية والفلسفية تكسرُ الجليدَ القابع في أعماق وعي القارئ ورؤيتهِ الكونية، فيُبعث من سكونهِ انساناًمختلفا يرى أكثر وأعمق من اللازم، كبطل الرواية تماما!.

.

#عدنان_المناوس

#حرفي

#الجحيم

#هنري_باربوس

زقاقٌ لاحتمالاتٍ عديدة!

كلّما سار في الزقاق الضيّق المؤدي إلى مزرعته الصغيرة الكائنة في نهاية حدود قريته، رأى ذلك الكلب وهو (باسطٌ ذراعيه بالوصيد) كمايتخيّل دوماً كلب أهل الكهف الذي ما انفكّت الأسئلة تراودهُ عنهُ كلما تلا سورة الكهف بعد انتهائه من أداء صلاة الجمعة:

((ما الذي فعلهُ ذلك الكلب حتى تشمله تلك الكرامة التي حظيَ بها أهلُ ذلك الكهف؟! ما السرّ الكامن خلف اصطفائهِ من بين كلّ الكلابليسموَ مع أصحاب الكهف إلى مقامات الأولياء الصالحين ؟!! وهل كان ذلك الكلب……كلباً حقاً؟!)).

.

كان بدنهُ يقشعرُ كلما مرّ على هذه الآية تماماً كما كان كذلك كلما رأى هذا الكلب محدّقاً بنظره إلى البعيد وهو يعبرُ من أمامه إلى مزرعته.

.

كان كلباً هزيلاً، يكسو شعرهُ الأسود الغبار وكأنهُ قادمٌ من سفرٍ طويل في عاصفةٍ رملية.له أذنان طويلتان ذابلتان وعينان تشعان بريقاًغامضاً كأنهما هوّتان في فضاءٍ سحيق..!

.

في كلّ مرةٍ كان يراه فيها، يعبرُ من أمامهِ مسرعاً وهو يردد المعوذتين بصوتٍ خافت، متلفتاً مذعوراً من هذا الكلب الذي لم تتغير يوماً هيئتهُ ولانظرتُه المحدّقة إلى البعيد!

.

إلاّ مرة واحدةً في احدى الليالي المظلمة، قرّر أن يضع حداً لمخاوفه معه ، لعلهُ يتمكّن من طردهِ من ذلك المكان ومن مخيلته!

اقترب منهُ ولكنّ الكلب لم يتحرّك قيد أنملة، انحنى الرجلُ وحدّق في عينيه مباشرةً لكنّ تلك العينين اللامعتين بقيَتا محدقتين في البعيد!

.

قرّر أن يُقلّد وضعية الكلب، فجلس بجانبه ووضع ذراعيهِ وركبتيه على الأرض وأخذ يتمثّلُ هيئتهُ تماماً وهو (باسطٌ ذراعيه بالوصيد) محدّقامثلهُ إلى البعيد البعيد!

.

.

تلك الليلة كانت الليلة الأخيرة التي شُوهدَ فيها ذلك الرجلُ وهو يدخلُ ذلك الزقاق المؤدي إلى مزرعته دون أن يُخلّف أيّ أثر..!!

.

.

.

انتهى 🙏

.

#عدنان_المناوس

#القصة_القصيرة


خ

وحيداً في ليلة العيد..وحيداً في المقهى!


وحيداً في ليلة العيدوحيداً في المقهى..!”

.

هل قلتُ وحيداً ؟!

.

أعتذر منكم أيها السيدات والسادة..فقد أخطأت ، إذ كان برفقتي سيد الصمت الكبير..حِبر العبث الأعظم … “صمويل بيكيتو المتلبّس هنا فيمولوي“..!

أخرجتهُ قليلاً من عالم الرواية، أجلستهُ على المقعد المقابل لي متمنياً ألا يراه أحدٌ من الزبائن الداخلين أو الخارجين من الباب المجاور للطاولة، أو يتعرّف عليه أحد الندُل فيقطع علينا خلوتنا الصامتة..!

لنقل بتعبيرٍ أدق، سلختهُ من جلدمولويوأعدتهُ إلى صورته الحقيقية أمامي، بشَعرٍ مثل عشبٍ قصير تمتدّ رؤسهُ إلى الخلف أو تكاد..!  وأذنين كبيرتين مُشرعتين للإصغاء كجناحي نسر ،وعينين صغيرتين، زرقاوين زُرقةَ البحر!!

ويا لهما من عينين ..!!

كأنهما هاويتان بلا قرار ، تبتلعان ما تتأملانه حدّ الغرق!

.

بيكيت…. أنتَ معي وحدك هذه الليلةليلة عيد الأضحىعندنا نحن المسلمون-…لا أدري إن كنتَ تعرف هذه المعلومة أم لا….فهذا لا يهم ياصاحبيفنقاشي معك سيكون عن معنى المفردة ذاتها….وأرجوك أن تحملَني على محمل الجدّ وتبتعد عن العبث والسخرية قليلاً..!

.

أفكّر في معنى (العيد)… هل هو ثابتٌ في كل زمان ومكان أم متغير؟! هل كان (العيد) متخماً بالمعنى عندما كنا صغاراً فتغذينا من حبله السريحتى كبرنا وانقطع الحبلُوخوى بطنهُ من المعنى..؟!

.

ههأعلم مايدورُ في ذهنك يا صاحبي ، ستقول بأن الأمر نسبي ….يختلف من شخص إلى آخرلكني أحدّثك عنّي الآن وأشاركك هواجسي التي يضطرمُ لهيبها في رأسي الذي تشتعلُ شعيراتهُ شيباً يوماً بعد يوم..!

.

قل ليإن كان العيد مازال محافظاً على معناهفلماذا لا أسمع الآن وقع خطواته المُبهجة في قلبي مثلما كان يُطربني إيقاعهُ عندما كنتُ غضاً طرياً..؟!

كنتُ فيما مضى أستقبلهُ استقبال الوالهين، بثوبين جديدين، ثوبٌ أبيضٌ بكُمّين مفتوحين، وثوبٌ أصفرٌ بكمّين ينغلقان على رسغ اليدين بزرّين صغيرين، أو (كبكين) كنتُ قد اشتريتهما قبل العيد بأسبوعين على الأقل …. والعكس في اللونين صحيح!

.

فتمرّ عليّ ساعاتُ الصباح الأولى وأنا أجرّب كلا الثوبين مرةً بعد مرة حائراً ( بأيّ ثوبٍ من الأثواب ألقاهُ)* في يومه الأولكما يقول عمّنا نزار قباني

.

أما الآن فها قد أتى العيد….دون أن أهتمّ ما إذا كنتُ سأستقبلهُ بثوب ٍجديدٍ أم قديمٍ أستلمهُ من مغسلة الملابس الكائنة في القرية المجاورة قبل ساعاتٍ من بزوغ شمس يومه الموعود..!

.

أجبني….ما معنى أن أستقبل هذا العيد يا صاحبي….بحذاءٍ أنهكتهُ الطرقات….دون أن أعيرَ بالاً لذلك..ودون ملابسٍ داخليةٍ جديدة لن يراها أحدٌ سواي ..؟!

.

ما معنى (العيد) في ظلّ كلّ هذا الفقد الهائل الذي يقضم أطرافه مثل جراد..!!؟

بيكيت….هل ما أشعرُ به الآن اتجاه (العيد)، هو أحد ملامح العبث  الذي تُشير إليه بخنصرك الحاد وتفقأ به عين العالم..؟!

.

.

.

انتبهتُ على صوت النادل وهو يقول لي :

Sorry sir, we will close now!

.

اعتذرتُ إليهودفعتُ ثمن القهوة و الشايولم ألمح بيكيت أماميولكنّي أحسستُ بوخزٍ شديدٍ في عينيّفركتهما كمن يفركُ عبثاً بقعةً عصيةً على الإزالة من أحد ثيابه…! فتحتُ كاميرا (السناب) محاولاً أخذ صورةٍ كاذبةٍ بمناسبة العيدفلمحتُ اصبعاً حادةً مغروزة في كلتا عينيّ مثل خنجر..!

.

.

#عدنان_المناوس

عباس كيارستمي  (سينما مطرزةٌ بالبراءة)

 

قال في حقه المخرج الياباني العظيم أكيرا كوروساوا:

عندما رحل ساتیاجیت راي شعرت بكآبة وإحباط تام. لكن بعد مشاهدتي لأفلام كیارستمي، اقتنعت بأن الله قد اختار الشخص المناسب ليحل محل ساتیاجیت راي

.

في الحديث عنسينما المؤلفوالسينما الشعريةيبرز أمامَنا المخرج والشاعر الإيراني العظيم عباس كياروستاميمثل شمس هائلة تضيء هذه المساحة الشاسعة بغزارة التجارب السينمائية والرؤى الفنية العميقة. من أهم أفلامهالكثيرة:  (طعم الكرز1997م، عبر أشجار الزيتون 1994م،والحياة تستمر1992م،لقطة قريبة 1990م،أين منزل الصديق؟1987م).

.

((عباس كياروستامي هو مخرج وشاعر، كاتب سیناریو ومونتیر، رسام ومصور فوتوغرافي، ولد في طهران عام 1940 موتوفي في باريس عام 2016. ترك إرثا سينمائيا عظيما يفوق الأربعين تنوعت مابين الأفلام الدرامية والوثائقية والدعائية والأفلام القصيرة))

 .

وكون أنه شاعر ومتعدد المواهب في حقول فنية بصرية متعددة فقد غذّت هذه الينابيع كلها تجربته السينمائية الفريدةالتي طبّق فيها بوعي عميق الرؤى الشعرية اللغوية. فكما أن الشعر الحديث يترك مساحات فارغة ليسمح للمتلقيبالتفاعل مع النص في سد هذه الفراغات بالدلالات اللامتناهية فكذلك أفلامه التي يكتبها بنفسه والتي تقول ولا تقول. البسيطة في الشكل والمعقدة في المضمون. لم تكتفِ سينماه بخلخلة البنى السردية القصصية الشائعة محلقةً بالفيلمإلى مقام الصورة الشعرية العالية في أبعادها الجمالية وإيقاعها الساحر، بل محت التخوم بين ما هو درامي وما هووثائقي ومزجت بينهما في خليط ساحر من الصدق العاطفي للممثلين الذين تنوعوا بين الذين ليست لهم تجارب فيالتمثيل مسبقة وبين الأطفال. فكانت سينماهسينما مطرزة بالبراءةبحق كما أطلق عليها ذلك كاتب السيناريوالفرنسي الشهيرجان كلود كارييهواتخذ هذا التعبير الكاتب البحرينيأمين صالحعنوانا لكتابه الذي تناول تجربة عباس كيارستمي بشكل موسّع.

.

سينماه تمتاز بالتقشف في الميزانية والمونتاج والتلاعب البصري والأضواء إلا أنها ثرية بالعاطفة الشعرية العميقةوالأسئلة الوجودية حول الموت والحياة التي يطرحها من خلال سينماه ولا يجيب عليها لأنه يؤمن أن مهمة السينمائي كالشاعر تماما طرح الأسئلة لا عرض الإجابات.

.

ولأن الشعر يتجلى للشاعر في لحظة حدس عميق فكذلك السينما عند كياروستامي حيث يقول:

(أنا لا أبدأ العمل وفي ذهني نظریة ما. أنا أعمل بطریقة غریزیة تماماً، ولا أعرف طریقةً أخرى للعمل).

ومثلما الشعر المتدفق من هذه اللحظة اللاواعية للشاعر تتطلب منه عودة واعية له بعد مدة لأجل عملية النقد والغربلة. فإن كياروستامي كذلك يعود لمثل هذه اللحظة الواعية في السينما في غرفة المونتاج حيث يقول:

(الصدفة لا توجد في السینما. كل شيء في الفیلم ملحوظ ومحوّل سواء حدث ذلك مصادفةً أثناء التصویر أو على نحو مقصود. لكن مسألةالاحتفاظ به في غرفة المونتاج هي واعیة).

.

ولذلك يجيب برؤية الشاعر السينمائي في أحد حواراته عنالسينما الشعرية“:

(عندما أتحدث عنالسینما الشعریة، فإنني لا أعني أن لها علاقة بالقصیدة. عندما أتحدث عنالسینما الشعریةفإنني لا أتحدث عن إرسال رسالة إنسانیة. إنما أتحدث عن السینما في كونها كالشعر، تمتلك خاصیات الشعر المركّبة، ولدیها أیضاً الإمكانیة الواسعة للشعر.. لدیها قدرات الموشور.هذا النوع من السینماالشبیهة بالموشورلها مقدرة طویلة الأناة، وفي أي حالة معینة، في أي فترة زمنیة محددة،بإمكانك أن تتصل بها بطریقة مختلفة والناس بإمكانهم اكتشاف ذواتهم فیها. أظن أن على السینما أن تحتذي حذو الفنون الأخرى، أن تقوم بالعملیة ذاتها من التطور، وتتّخذ الإستشراف ذاته الذي اتخذته تلك الفنون.

لكن یتعیّن على المتفرجین أن یقدموا تنازلاً هنا، وذلك في ما یخص عدم توقع الترفیه والتسلیة فقط من الأفلام، كما الحال مع الشعر.. عندمالا یفهمون الشعر، فإنهم لا یعتبرون الشعر مسؤولاً عن وجود قصائد سیئة. إنهم یتقبلون الأمر. وعندما یذهبون للاستماع إلى الموسیقى فإنهم لا یتوقعون أن یستمعوا إلى قصة ما. وعندما ینظرون إلى لوحة تجریدیة فإنها تجلب إلى الذهن أشیاء أخرى غیر السرد. إنه من خلالالترابط أو التداعي التصویري همیحصلونعلى المعنى، ولیس من خلال إدراك الواقع المباشر أو المستقیم. أتمنى أن یفعلوا الشيء ذاته أمام شاشة السینما.)

.

 لأنّ كياروستامي الشاعر والسينمائي ينطلق من مفهومسينما المؤلففهو يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه. ولكنهكما يشير أمين صالح في كتابهسينما مطرزة بالبراءةيكتب 15 صفحة من السيناريو فقط، وأثناء التصوير يبدأالفيلم بخلق نفسه بنفسه شيئا فشيئا من الأحداث التي يرصدها كياروستامي في موقع التصوير. أما الحوار فيكتبه قبلالتصوير بفترة قصيرة متكئا على ارتجال الممثلين وتلقائيتهم.

.

كيارستمي تأثر كثيراً بتجربة المخرج الفرنسي العظيم روبيرت بريسون. وهو قد تأثر بكتاباته أكثر من أفلامه كما يشيرهو بنفسه. وربما من أكثر التأثيرات وضوحاً هو إيمانه ب(المودل) لا (الممثل)!

.

يقول روبيرت بريسون في مدوناته حول السينماتوغراف :

لا ممثلون

(لا إدارة ممثلين)

لا أدوار

(لا دراسة أدوار)

لا إخراج

إنما استخدام موديلات من الحياة.

أن نكون (موديلاً) بدل أن نظهر كأننا (ممثلون)*.!

ولذلك تتكئ سينماه على الأطفال والممثلينالهواةغير المحترفينالمودلليعمّق الشعور بالواقعية على شاشة السينما.

وحريٌ بنا أن نتسائل عن أسباب انتقاء كياروستامي للأطفال وممثلين لم يسبقوا لهم الوقوف أمام الكاميرا؟ وعن كيفية تعامله معهم؟

ويجيب كياروستامي عن ذلك في أحد حواراته كذلك بقوله:

أحب أن أعمل مع الأطفال لأن لهم نظرة حرّة شبه صوفیة. الحكماء الكبار القدامى

هم أطفال الیوم. الأطفال یحبون الحیاة من غیر شعارات. وفي الصباح لا یشعرون بالحاجة إلى القهوة لاستعادة البشاشة“.

وفي موضع آخر یقول:

الأطفال لا یكونون واعین لوجوههم، لمظهرهم الخارجي، لطریقتهم في الإلقاء، وكیف یلفظون جملهم. هم لا یؤدون ألعاباً، لا یلعبون، أمامالكامیرا.لذلك أنت تحتاج إلى ممارسة سیاسة مختلفة معهم“. 

وهو لا یخبر الممثلین عن طبيعة أدوارهم إلا نادرا بحيث يجعلهم يعيشون القلق كما هو في حياتهم الطبيعية حيث يقول:

أترك الممثلین في شكٍ بحیث یحملون هذا القلق الذي نجده في الحیاة الیومیة. حقیقة أنهم یرتابون تجعلهم یبدون مثلي تماماً“.

ویضیف:

اللایقین یخلق تعبیر الصدق. الكثیر من المعلومات والإشارات تحوّل الممثلین إلى كائنات آلیة

تحاول أن تصبح مثلك، المخرج والمؤلف، ولا تعكس الحیاة نفسها على نحو طبیعي)

.

وعن دور المخرج مع الممثلين هنا يقول:

(المخرج أشبه بمدرب فریق ریاضي. إنه الشخص الذي بوسعه أن یجلس، یدخّن، یراقب، یتابع، لكنه لا یستطیع أن یفرض إرادته علىاللاعبین ما إن تبدأ المباراة).

.

.

انتهى 🙏

.

المصادر:

كتاب (سينما مطرزة بالبراءةعباس كياروستاميللكاتب أمين صالح)

.

 

 

سقوطٌ في عتمةٍ وجودية

 

منذ أن قرأ عن (تناسخ الأرواح) وهو مأخوذٌ بهذه الفكرة التي عصفت هواجسها برأسه. ظلّ يحاول أن يغوص عميقاً في أغوار الذاكرة مثل سمكة ( الأنجليرفيش) المضيئة فلربما استطاع أن يصطاد في تلك العتمة الهائلة صورةً له شاردةً من العالم الآخر فيعرفُ من أو ماذا كان قبل أن تنزلق روحه عبر نطفةٍ حقيرةٍ من نُطف أبيه الكثيرة ليولد إنساناً رغماً عنه!

.

في احدى المرات فوّت الحضور لأمسيةٍ شعريةٍ أُعِدّت لأجله احتفاءً بإصدار ديوانه الشعريّ (الثالث عشر)، حضرها لفيفٌ من الأدباء والمثقفين ماعداه!. لأنهُ لمح وهو يُسرّح شعرهُ أمام المرآة طيفاً شفيفاً هلامياً لكائنٍ ما فظلّ يحدّق في المرآة مأخوذاً به لساعةٍ كاملة ظناً منه أنّذلك الطيف هو صورة الكائن الذي كانه قبل أن يولد على هذه الهيئة البشرية، فظلّ يتفحصها كما كان الرجل المذعور في لوحة (روح) للرسام الفرنسيّ التوضيحي (جورج رو) يتفحّص طيف الفتاة الشفيف التي تراءت له بفستانها الناصع البياض في عتمة غرفته وهي تعزف على البيانو الخاص به.

.

(حسناً وأيّ كائنٍ حقيرٍ آخر سأصير بعد ذلك، ربااه ألن ينتهي هذا العذاب ؟!)

كان يُفكرّ بهذا السؤال وهو يقضي حاجته الوجودية في حمّام غرفته، فلمحَ عند احدى الزوايا صُرصاراً داكن اللون يُحدّق في عينيه مباشرةً وكأنّ قرنيّ استشعاره الطويلين يقبضان روحه من عينيه!

.

فكّر مذعوراً (ماذا لو متّ الآن وانتقلت روحي إلى هذا الصرصار الحقير في هذا المكان الحقير، وجاءت زوجتي الحقيرة تطرق عليّ الباب فلا أجيب، فتفتح الباب عنوةً وتراني مرمياً على أرضية الحمام ملوثاً بقاذوراتي، والصرصار (الذي هو أنا) واقفٌ عند رأسي البشري اللعين؟! ستصرخ مذعورةً ولأنها تعاني من (فوبيا الصراصير) سوف تضربني أولاً بحذاء المنزل قبل أن تهبّ لنجدة جسدي البشري وسأموت حينها للمرة الثانية! ولكن في هذه المرة ستظلّ روحي عالقةً بأسفل ذلك الحذاء مثل علكةٍ قذرة!)..!

.

أيقظتهُ من شروده طرقاتُ زوجته المتتالية على الباب ونداءاتها المتكررة له للإسراع بالخروج لتناول وجبة الغداء الجاهزة منذ مدة.

.

انتهى من قضاء حاجته سريعاً وخرج للمائدة التي تنتظره. ولكنهُ منذ ذلك الحين، كلّما خطا خطوةً بحذاء المنزل شعرَ بوخزٍ غريبٍ ينغرز في قلبهِ مثل شوكة.!

.

.

#عدنان_المناوس

#حرفي

#قصة_قصيرة

خفاشٌ في المكتبة!

ليس عنواناً مجازياً، ولا استعارة أدبية جمالية، فمن أين نتلمس الاستعارات الجمالية في مُفردة أضحت أكثر المفردات رعباً ووحشةً للإنسان منذ أن ارتبطالخفّاشبجائحةكورونا“…حمانا الله وإياكم من شرها المُستطير!

.

.

خفّاشٌ في المكتبة

هكذا بكل بساطةٍ مخيفة..وقدَرٍ سماويٍّ غريب….”خفّاشٌ في المكتبة“..!!

.

استيقظتُ مبكّراً هذا الصباح، لا لشيء إلا لأن ساعتي البيولوجية ترفض أن توقف رنينها في رأسي كلّما أطلتُ في النومو الفضل يعود في ذلكللدوامطبعاًو الدوام لله ..!!

قلتُ في نفسي بعد أن انتعش جسمي قليلاً بحمّام شبه دافئطالما نحن مازلنا (بين بين)…بين الشتاء والصيف..!

فلأدخل المكتبة وأكمل الرحلة الأندلسية في (ثلاثية غرناطة) لرضوى عاشورأو العدمية في (مثالب الولادة) لسيورانأو الشعرية في( فمٍ يتشرّد في جهات الجمر ).. لإبراهيم الحسين“..!

.

ولكن كلّ هذا لم يحدثوالسبب بكل بساطة (خفّاشٌ في المكتبة)..!

.

دخلتُ المكتبة كما يدخل المؤمنون الجنة (بسلامٍ آمنين)…! رفعتُ شنطة الكتب الزرقاء التي ترافقني أينما ارتحلتُ وحللتُ..إلا أننيويا لسوءالطالعلمحت جسد الخفاش البنّي متعلقاً على ظهرها مطمئنا وسكراناً برائحة الكتب..!

وإذا بيبدافعٍ من غريزة النجاة المحضة التي اجتاحتني رعشتها من أطول خصلة في شعري بقيت واقفةً مثل نخلة لم ينجحالمشطفي إنزالها على ظهرهاإلى أطول ظفرٍ في قدميأنزلتُ الشنطة مرةً أخرى إلى الأرض حاجزاًالخفاشبين ظهر الشنطة و الأرضية بسرعة البرقمتسائلاً في أعماقي بكل علامات التعجب والاستنكار….(خفاشٌ في المكتبة..!!!)

.

استجمعتُ في كفّيّ قوةّ لا أعلم من أين أتت عظمتهاضربتُ الشنطة على بطنها مثل ممسوسٍ ضربات لم أفكّر في إحصائها….سمعتُ أنةً حادةً وأنا أضرب الشنطة ولم أتوقفسمعتُ صوت شيءٍ يتكسّر في الشنطة….حسناً ربما قلمياللعنة (ياروح مابعدك روح)..ولم أتوقفأخذت شنطة مستطيلة أخرى وأكثر صلابةً من هذه قريبةً مني تحمل في داخلها درعاً بمناسبة إكمالي لخمس سنوات في وظيفتيوزدتُ الثقل على الشنطة بها ورحتُ أضرب ولم أتوقف…! فما زلتُ تحت سكرة الصدمة حيث (خفّاشٌ في المكتبة..)!

.

في النهاية توقفت….رفعتُ شنطة الدرعوبدأتُ أرفعُ الشنطة الأخرى بحذر من طرفها العلوي..شيئاً فشيئاً لأتأكد من أن هذه الضربات لم تذهب سدىًوتأكدّ لي ذلك عندما رأيت أثراً من دمائه السائلة من رأسه المفضوخ تحت وقع الضربات الهستيرية..!

.

كنستهُ ورميتُ كلّ ما استعملتهُ في محو آثار المعركة، وعقّمت المكانإلا أنني لم أكنس أثر الصدمة من عروقي..! خرجتُ قليلاً لعل رياح اليوم المُثقلة بالغبارتُطيرّ الصدمةلكنّ التفكير بالاحتمالات اللامتناهية من كيفية دخوله للمكتبة لم تفارق ذهني كلّما خطفَ طيفُ صورته اللعينة أمام عينيّعدتُ للمنزلدخلت المكتبة ..ولأول مرةٍ لم أشعر بتلك الطمأنينة والسكينة التي تبعثها هذهالجنةعلى حد تعبيربورخيسإذ مازلت أسمع الصدى في أعماقي يرددخفّاشٌ في المكتبة“..!!

.

حاولتُ مرةً ومرتين وثلاثولكني في كل مرةٍ أدخلهاأشعر أن هناك واحدا آخرا أو ربما قبيلةً من الخفافيش سوف تخرج لي من بطون الكتب وتهاجمني انتقاماً لذلك الخفاش الذي تسللّ خفيةً من المجهول فنال جزاء هذا التسلل الغير مشروع..!!

.

.

وها هو اليوم شارف على نهايته….ولم أدخل المكتبة كعادتي اليوميةولم أكمل فيها لا (ثلاثية غرناطة) ولا (مثالب الولادة) ولا (فمٌ يتشرّد فيجهات الجمر) على خلفية موسيقى الجاز وأجواء المقاهي التي أستمع إليها من منصةاليوتيوبوقت القراءة ولا أكملتُ  الساعة المتبقية الأخيرة حتّى من الفيلم الطويل للمخرج الفلبيني الكبير (لاڤ دياز) (From What is Before ) والممتد لخمس ساعات ونصف…..والسبب في ذلك كله….(خفّاشٌ في المكتبة)..!!

.

.

عدنان المناوس