الفئة:تحت ظلال الأفلام والمسلسلات

عباس كيارستمي  (سينما مطرزةٌ بالبراءة)

 

قال في حقه المخرج الياباني العظيم أكيرا كوروساوا:

عندما رحل ساتیاجیت راي شعرت بكآبة وإحباط تام. لكن بعد مشاهدتي لأفلام كیارستمي، اقتنعت بأن الله قد اختار الشخص المناسب ليحل محل ساتیاجیت راي

.

في الحديث عنسينما المؤلفوالسينما الشعريةيبرز أمامَنا المخرج والشاعر الإيراني العظيم عباس كياروستاميمثل شمس هائلة تضيء هذه المساحة الشاسعة بغزارة التجارب السينمائية والرؤى الفنية العميقة. من أهم أفلامهالكثيرة:  (طعم الكرز1997م، عبر أشجار الزيتون 1994م،والحياة تستمر1992م،لقطة قريبة 1990م،أين منزل الصديق؟1987م).

.

((عباس كياروستامي هو مخرج وشاعر، كاتب سیناریو ومونتیر، رسام ومصور فوتوغرافي، ولد في طهران عام 1940 موتوفي في باريس عام 2016. ترك إرثا سينمائيا عظيما يفوق الأربعين تنوعت مابين الأفلام الدرامية والوثائقية والدعائية والأفلام القصيرة))

 .

وكون أنه شاعر ومتعدد المواهب في حقول فنية بصرية متعددة فقد غذّت هذه الينابيع كلها تجربته السينمائية الفريدةالتي طبّق فيها بوعي عميق الرؤى الشعرية اللغوية. فكما أن الشعر الحديث يترك مساحات فارغة ليسمح للمتلقيبالتفاعل مع النص في سد هذه الفراغات بالدلالات اللامتناهية فكذلك أفلامه التي يكتبها بنفسه والتي تقول ولا تقول. البسيطة في الشكل والمعقدة في المضمون. لم تكتفِ سينماه بخلخلة البنى السردية القصصية الشائعة محلقةً بالفيلمإلى مقام الصورة الشعرية العالية في أبعادها الجمالية وإيقاعها الساحر، بل محت التخوم بين ما هو درامي وما هووثائقي ومزجت بينهما في خليط ساحر من الصدق العاطفي للممثلين الذين تنوعوا بين الذين ليست لهم تجارب فيالتمثيل مسبقة وبين الأطفال. فكانت سينماهسينما مطرزة بالبراءةبحق كما أطلق عليها ذلك كاتب السيناريوالفرنسي الشهيرجان كلود كارييهواتخذ هذا التعبير الكاتب البحرينيأمين صالحعنوانا لكتابه الذي تناول تجربة عباس كيارستمي بشكل موسّع.

.

سينماه تمتاز بالتقشف في الميزانية والمونتاج والتلاعب البصري والأضواء إلا أنها ثرية بالعاطفة الشعرية العميقةوالأسئلة الوجودية حول الموت والحياة التي يطرحها من خلال سينماه ولا يجيب عليها لأنه يؤمن أن مهمة السينمائي كالشاعر تماما طرح الأسئلة لا عرض الإجابات.

.

ولأن الشعر يتجلى للشاعر في لحظة حدس عميق فكذلك السينما عند كياروستامي حيث يقول:

(أنا لا أبدأ العمل وفي ذهني نظریة ما. أنا أعمل بطریقة غریزیة تماماً، ولا أعرف طریقةً أخرى للعمل).

ومثلما الشعر المتدفق من هذه اللحظة اللاواعية للشاعر تتطلب منه عودة واعية له بعد مدة لأجل عملية النقد والغربلة. فإن كياروستامي كذلك يعود لمثل هذه اللحظة الواعية في السينما في غرفة المونتاج حيث يقول:

(الصدفة لا توجد في السینما. كل شيء في الفیلم ملحوظ ومحوّل سواء حدث ذلك مصادفةً أثناء التصویر أو على نحو مقصود. لكن مسألةالاحتفاظ به في غرفة المونتاج هي واعیة).

.

ولذلك يجيب برؤية الشاعر السينمائي في أحد حواراته عنالسينما الشعرية“:

(عندما أتحدث عنالسینما الشعریة، فإنني لا أعني أن لها علاقة بالقصیدة. عندما أتحدث عنالسینما الشعریةفإنني لا أتحدث عن إرسال رسالة إنسانیة. إنما أتحدث عن السینما في كونها كالشعر، تمتلك خاصیات الشعر المركّبة، ولدیها أیضاً الإمكانیة الواسعة للشعر.. لدیها قدرات الموشور.هذا النوع من السینماالشبیهة بالموشورلها مقدرة طویلة الأناة، وفي أي حالة معینة، في أي فترة زمنیة محددة،بإمكانك أن تتصل بها بطریقة مختلفة والناس بإمكانهم اكتشاف ذواتهم فیها. أظن أن على السینما أن تحتذي حذو الفنون الأخرى، أن تقوم بالعملیة ذاتها من التطور، وتتّخذ الإستشراف ذاته الذي اتخذته تلك الفنون.

لكن یتعیّن على المتفرجین أن یقدموا تنازلاً هنا، وذلك في ما یخص عدم توقع الترفیه والتسلیة فقط من الأفلام، كما الحال مع الشعر.. عندمالا یفهمون الشعر، فإنهم لا یعتبرون الشعر مسؤولاً عن وجود قصائد سیئة. إنهم یتقبلون الأمر. وعندما یذهبون للاستماع إلى الموسیقى فإنهم لا یتوقعون أن یستمعوا إلى قصة ما. وعندما ینظرون إلى لوحة تجریدیة فإنها تجلب إلى الذهن أشیاء أخرى غیر السرد. إنه من خلالالترابط أو التداعي التصویري همیحصلونعلى المعنى، ولیس من خلال إدراك الواقع المباشر أو المستقیم. أتمنى أن یفعلوا الشيء ذاته أمام شاشة السینما.)

.

 لأنّ كياروستامي الشاعر والسينمائي ينطلق من مفهومسينما المؤلففهو يكتب سيناريوهات أفلامه بنفسه. ولكنهكما يشير أمين صالح في كتابهسينما مطرزة بالبراءةيكتب 15 صفحة من السيناريو فقط، وأثناء التصوير يبدأالفيلم بخلق نفسه بنفسه شيئا فشيئا من الأحداث التي يرصدها كياروستامي في موقع التصوير. أما الحوار فيكتبه قبلالتصوير بفترة قصيرة متكئا على ارتجال الممثلين وتلقائيتهم.

.

كيارستمي تأثر كثيراً بتجربة المخرج الفرنسي العظيم روبيرت بريسون. وهو قد تأثر بكتاباته أكثر من أفلامه كما يشيرهو بنفسه. وربما من أكثر التأثيرات وضوحاً هو إيمانه ب(المودل) لا (الممثل)!

.

يقول روبيرت بريسون في مدوناته حول السينماتوغراف :

لا ممثلون

(لا إدارة ممثلين)

لا أدوار

(لا دراسة أدوار)

لا إخراج

إنما استخدام موديلات من الحياة.

أن نكون (موديلاً) بدل أن نظهر كأننا (ممثلون)*.!

ولذلك تتكئ سينماه على الأطفال والممثلينالهواةغير المحترفينالمودلليعمّق الشعور بالواقعية على شاشة السينما.

وحريٌ بنا أن نتسائل عن أسباب انتقاء كياروستامي للأطفال وممثلين لم يسبقوا لهم الوقوف أمام الكاميرا؟ وعن كيفية تعامله معهم؟

ويجيب كياروستامي عن ذلك في أحد حواراته كذلك بقوله:

أحب أن أعمل مع الأطفال لأن لهم نظرة حرّة شبه صوفیة. الحكماء الكبار القدامى

هم أطفال الیوم. الأطفال یحبون الحیاة من غیر شعارات. وفي الصباح لا یشعرون بالحاجة إلى القهوة لاستعادة البشاشة“.

وفي موضع آخر یقول:

الأطفال لا یكونون واعین لوجوههم، لمظهرهم الخارجي، لطریقتهم في الإلقاء، وكیف یلفظون جملهم. هم لا یؤدون ألعاباً، لا یلعبون، أمامالكامیرا.لذلك أنت تحتاج إلى ممارسة سیاسة مختلفة معهم“. 

وهو لا یخبر الممثلین عن طبيعة أدوارهم إلا نادرا بحيث يجعلهم يعيشون القلق كما هو في حياتهم الطبيعية حيث يقول:

أترك الممثلین في شكٍ بحیث یحملون هذا القلق الذي نجده في الحیاة الیومیة. حقیقة أنهم یرتابون تجعلهم یبدون مثلي تماماً“.

ویضیف:

اللایقین یخلق تعبیر الصدق. الكثیر من المعلومات والإشارات تحوّل الممثلین إلى كائنات آلیة

تحاول أن تصبح مثلك، المخرج والمؤلف، ولا تعكس الحیاة نفسها على نحو طبیعي)

.

وعن دور المخرج مع الممثلين هنا يقول:

(المخرج أشبه بمدرب فریق ریاضي. إنه الشخص الذي بوسعه أن یجلس، یدخّن، یراقب، یتابع، لكنه لا یستطیع أن یفرض إرادته علىاللاعبین ما إن تبدأ المباراة).

.

.

انتهى 🙏

.

المصادر:

كتاب (سينما مطرزة بالبراءةعباس كياروستاميللكاتب أمين صالح)

.

 

 

تأملات في السينما الشعرية

(محاولة لإيجاد نقاط التناص بين بعض المفاهيم السينمائية و الشعرية الحديثة)

 

عندما أعود للماضي البعيد, وأعني بالتحديد ماضي تحولات المفاهيم الشعرية التي مررتُ بها متأثرا بعدة عوامل خارجية وداخلية منذ أن تبرعم الشعر في ذاتي ونما نصا فنصا, على مدى هذه الحياة العابرة التي طاردت فيها ومازلت غزلان الأدب والفن والجمال في غابة العمر الموحشة, أتذكر عدة “صدمات شعرية” -إن صحً التعبير بذلك-, كونت لدي رؤى حياتية وشعرية مختلفة ووسًعت من مدارك الشعر ورؤيتي الذاتية له أكثر فأكثر. 

 

والسينما كذلك لم تخل من صدمات تسبّبت في توسّع إدراكي لهذا الفن السابع وانقداح شرارة التحولات في المفاهيم السينمائية التي صاحبت رؤيتي له فيلما ففيلما. وأول صدمة سينمائية أصابتني هي الصدمة التي صاحبتني عند مشاهدة فيلم ( المطارد/ (Stalker للمخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي الذي أخرجه عام 1979 م حيث كانت أبجديات الفيلم مختلفة كليا عما هي مألوفة بالنسبة لي, وأعني بذلك التقنيات “الهوليوودية” التجارية على وجه الخصوص. 

 

بعد هذه المقدمة التي كانت شرا لابد منه أدخل إلى المقاربة بين الشعر كلغة مكتوبة وبين الشعر كصورة مرئية سينمائية! 

 

وهنا سأختار شخصيتين بارزتين أثرتا على مفهوم الشعر والسينما على حد سواء, هما الشاعر والمفكر الكبير أدونيس, والمخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي. 

 

وقبل ذلك أيضا علي أن أوضح ماهو المقصود ب (السينما الشعرية). 

 

في الواقع مفهوم (السينما الشعرية) ضبابي ومُلتبس إلى حد ما حتى عند الكثيرين من النقاد والمخرجين أنفسهم, ولكني أميل للرأي الذي يقول بأن السينما الشعرية (لا تعني أن نعالج قصيدة شعرية سينمائيا)*1, أي أن يكون الفيلم مبنياً على نص شعري كما هو فيلم (تروي/Troy) أو (حصان طروادة) المبني على النص الشعري الملحمي ل (هوميروس) في الإلياذة والذي أخرجه المخرج الألماني ولفغانغ  بيترسن/ Wolfgang Petersen  والذي أدى فيه دور (أخيليس/ Achilles ) الممثل الأمريكي براد بيت/ Brad Pit عام 2004م . 

 

إنما (السينما الشعرية) كما يعبر بذلك المخرج السويدي انجمار بيرغمان- (سينما أحاسيس)*1. أو كما يصرح المخرج والشاعر الفرنسي جون كوكتو بأن (السينما الشعرية سينما تفكير, فالمشاهد مُطالب بأن يفكر ويحلل وأهم شيء أن يحس)*1

ومن هذا الباب نفهم أن السينما الشعرية هي في العمق معالجة الفيلم بجميع أبجدياته معالجة شعرية من الجذور تتناص مع المفاهيم الشعرية –الحديثة- بشكل خاص, أي أنّ السينما الشعرية هي محاولة كتابة قصيدة ما بالأدوات البصرية! 

ويُعتبر الشاعر والمخرج الإيطالي الكبير( بازوليني /  Pasolini 1922-1975) هو أول من أطلق هذا المسمى وعالجه نقديا في نصه النظري (السينما الشعرية) المنشورعام 1965 م وإن كان سبقه في ذلك (الشكلانيين)* الروس في رصد ملامحها الأولية*2. 

 

يرى بازوليني على أن جوهر اللغة السينمائية هي لغة شعرية تتكئ على سيميولجية الصورة المرئية (علم الإشارات) وهو الذي يقف بالضد من المفهوم الشائع للسينما ولغته السردية/النثرية المتكئة على المفهوم القصصي والحبكة الدرامية. ويُقسم بازوليني نظريته عن السينما الشعرية إلى قسمين رئيسيين هما (الصورة الإشارية, والخطاب الحر غير المباشر)*3

 

و من باب هذا التقسيم يمكن أن نقارب هذه الرؤية السينمائية مع اللغة الشعرية الحديثة من حيث قابليتهما للتأويل اتكاء على ما تحمل من إشارات ورموز دلالية مرئية كانت أم مكتوبة.

لكن يرى بازوليني أن الكاتب الأدبي يمارس دور واحد بتقنية أحادية هي “الكتابة” بينما السينمائي يمارس دورين مزدوجين: 

 

الأول لغوي تقني عن طريق جمع الصور/المفردات من منابع كثيرة كالذاكرة والأحلام ومحيط السينمائي الخارجي ولثاني هو ترتيب هذه الصور في عملية الإنتاج لإيصال المعنى أو الشعور المنشود للمشاهد. 

 

ومن هنا يطرح بازوليني في نظريته تساؤلات عميقة كـ(كيف يمكن للغة الشعر أن تتحقق في السينما؟ وهل حقا هذه اللغة ممكنة في السينما؟! وهل يمكن لأسلوب (الخطاب الحر غير المباشر) (الذي طالما ميز الشعر) يجد طريقه للصورة السينمائية؟!) *2

 

ولكي يجيب بازوليني على هذه التساؤلات يقوم على تحليل مايسميه بـ(مفهوم اللغة الشعرية التقنية) وهي ( الذاتية والأسلوب ودرجة الوعي) وهو مايتقاطع تماما مع مفهوم تاركوفسكي للسينما الذي يرى بأن الفيلم لابد أن يحمل طابع الذاتية والرؤية الخاصة للمخرج للحياة القائمة على مخزون الذاكرة وعبث الأحلام ورمزيتها الدلالية كما أشار لذلك في فيلمه الوثائقي ( رحلة عبر الزمن/Voyage in Time) الذي وثق فيه رحلته مع الشاعر والسيناريست الإيطالي الكبير تونينو جييرا عام 1983 م في البحث عن موقع لتصوير فيلمه القادم هناك (حنين/Nostalgia). فعندما كان يقرأ عليه سؤالا من أحد محبي تاركوفسكي عن ماهي توصياته الرئيسية التي يود أن يقدمها للمخرجين الشباب المبتدئين فيجيب بذلك عليه أنه (على المبتدئة ألا يفصلون أعمالهم, أفلامهم, أشرطتهم السينمائية عن الحياة التي يحيوها, وألا يؤسسوا لاختلافٍ فيما بينهم وبين سينمائهم لأن المخرج كأي فنان آخر , الرسام, الشاعر, والموسيقي, وعندها فإنه مطلوب منه أن يُشرك ذاته الخاصة. إنه من الغريب أن ترى مخرجين يتعاطون مع أعمالهم كوضع خاص مُنحوا إياه عبر القدر, وأنهم أنجزوا عملهم ببساطة بشكل يدعو للمفخرة ,هكذا بأن يحيوا بطريقة ما, وأفلامهم تحكي عن أشياء أخرى……إلخ).

 

وهذا المبدأ يتقاطع أيضا مع مفهوم الشعر الحديث الذي يتقاسمه كبار الشعراء وعلى رأسهم(أدونيس) إذ يقرر في احدى سلسلة حواراته مع قناة الميادين (هذا هو اسمي..أدونيس)  أن على الشاعر (أن يكتب تجربته الذاتية,فالشعر يكمن في الذاتي الخاص وليس في العام المُشترك لذلك على الشاعر أن يكتب مثلا تجربته في الحب لا عن الحب بشكل عام)! 

 

الجدير بالذكر أن تاركوفسكي ينحاز لشكل السينما الشعرية التي تبلورت مفهومها في أفلامه المتأخرة بشكل خاص كـ (المطارد/Stalker) ,(حنين/Nostalgia) و (مرآة/Mirror ) والذي يعتبره بعض النقاد أكثر أفلامه رمزية.*4

 

ويقف كما يشير في فيلمه الوثائقي ( رحلة عبر الزمن/Voyage in Time)ضد السينما السردية التجارية الشائعة المرصوفة بالقواعد السينمائية الكلاسيكية إذ نفهم منه بأن لغة الصورة هي لغة حرة ,كلغة الشعر الحديث تماما التي لا تقوم على القواعد العروضية الكلاسيكية. إذن من هنا نرى بأن الشعر والسينما يتقاطعان أيضا في ذات المفهوم المتمرد على القواعد والحبكات الجاهزة.

 

لذلك تعتمد السينما الشعرية على دهشة الصورة بأبعادها الزمانية والمكانية في المتلقي وهذا جلي وواضح في البطء الزمني الحاصل في أفلام تاركوفسكي –على سبيل المثال- (الذي يرى بأن كل لقطة هي خلاصة اللقطات السابقة جميعها وهو جوهر الإنتاج عنده وليس التتابع الصوري الديناميكي للمشاهد)*4. وكأنه كذلك كما يقول بازوليني (أن تجعل الكاميرا تشعر)*3

 

يقول أدونيس في ذات اللقاءات مع قناة الميادين بأنه يبحث عن القارئ النوعي, القارئ المتفاعل الذي يتفاعل مع النص ويشترك معه في توليد المعاني , وإن أراد القارئ أن يفهم أدونيس عليه ألا يكتفي بقراءته شعريا بل بالإلمام بكل تجربته الثقافية والفكرية الإبداعية حتى يقرأ أدونيس شعريا بشكل أعمق! 

 

ويمكننا إسقاط هذه الفكرة على أفلام تاركوفسكي ولنأخذ على سبيل المثال فيلم (مرآة/Mirror) الذي كما أشرت سلفا يعتبره الكثير من النقاد أكثر أفلامه رمزية, ولكن من الممكن أن يفكك المشاهد بعض هذه الرموز إذا علمَ أن هذا الفيلم يحتوي على مخزون كبير من ذاكرة تاركوفسكي الشعرية والحياتية مع أبيه مثلا وهو الشاعر الروسي (وارسيني تاركوفسكي) والذي ضمّن الفيلم بعض أشعاره. 

 

عموما هناك أمثلة كثيرة على السينما الشعرية والممهّدة لها كأفلام المخرج السويدي الكبير انجمار بيرغمان أو الإيراني الشاعر المخرج الكبير عباس كياروستامي وغيرهم. ولكني سأكتفي هنا بمثال أخير وهو الفيلم القصير (كلب أندلسي/Un Chien Andalou) الذي أخرجه المخرج الأسباني السوريالي العظيم لويس بانويل (1900-1983) بالمشاركة مع الفنان السوريالي العظيم الآخر سلفادور دالي ( 1989-1904) عام 1929 م والذي يعتمد على الصورة الرمزية الدلالية بشكل صارخ مستغنيا بذلك عن اللغة المنطوقة. فمشهد مثل خروج النمل من الكف لا يمر من دون ترك أي أثر على وعي و لاوعي المشاهد! 

 

و ختاما أود أن أقول بأن السينما الشعرية تختلف جوهريا عن السينما السائدة السردية بكل أبجدياتها وأركانها ومفاهيمها, وحتى لا تقع أيها القارئ الكريم في الخطأ الذي وقعتُ فيه أنا عندما شاهدت فيلم المطارد/Stalker  – كما ذكرت في بداية المقال- في حال أردت أن تلج إلى عالم (السينما الشعرية) من بوابته (الضيقة), فعليك أن تخلع عنك عباءة كل معايير (السينما /النثرية) عند العتبة وتدخل إلى عالم السينما وكأنك تدخله لأول مرة وحيئذ فقط ستتقبل هذا النوع الفريد والجميل والمدهش! 

………………. 

بقلم: عدنان المناوس-السعودية-المنطقة الشرقية-الأحساء 

 

هامش:

* الشكلانية الروسية هي مدرسة أدبية ازدهرت في موسكو عام 1915م, ركزت على تلقي النص ذاته كمنتج أدبي مستقل عن ضوء كاتبه بكل مايكتنزه الكاتب من آثار ثقافية وتاريخية وغيرها.

المصادر: 

  

1- مقال (السينما الشعرية و سينمائية القصيدة) للمخرج حميد عقبي المنشور في (ديوان العرب) 

2- كتاب (سينما الشعر- جدلية اللغة والسيميولوجيا في السينما) للكاتب عبدالكريم قادري. 

3- مقال (سينما الشعر: قصائد السينما المرئية) ل أحمد عزت المنشور في موقع (إضاءات) 

4- مقال (وقفة مع شاعر السينما الراحل أندريه تاركوفسكي) للناقد جواد بشارة المنشور في مجلة (نزوى 

Breaking Bad

عندما بدأ عرض مسلسل “Breaking Bad” عام 2008 شاهدتُ منه حلقتين. وتوقفت عن مشاهدته لأنني شعرتُ بالضجر!. ولكي أكونصريحاً معكم، أنا لستُ شغوفاً بالمسلسلات كثيراً كشغفي بالأفلام وإن كنتُ متابعاً لبعضها.

حينها لم أكن واعياً للعبة، أقصد اللعبةالإخراجيةللمسلسل فضلاً عن فنّالإخراجبشكلٍ عام.وعلى أية حال لم أُكمل متابعته. ولم أعدإلى مشاهدته مرةً أخرى إلا هذه السنة (2021) بعدما طاردتني ضجّته الإعلامية في كل زاوية من زوايا الحساباتالانستجراميةالمهتمة بالسينما والمسلسلات ناهيك عن صورة (هايزنبيرغ) المعلّقة أو المرسومة على جدران بعض المقاهي، وكأن القدر يناديني لمتابعته من جديد!. فتابعتهُفقط لأُخرس صوتَ الفضول الذي يرنّ في رأسي كلّما لمحتُ تبجيلاً له في مكانٍ ما.

ولذلك شاهدته وأحببته.وإن كنتُ مازلتفي بعض النواحي الفنية وبعض ملامح العمق الانساني (فلسفيا، أدبيا وسيكولوجياً) – أُفضّلمسلسلات أخرى عليه ك (My brilliant friend ) و (Black Mirror )و ( Dekalog) وهي مسلسلات لم تحظ ربما بالمتابعة العالية مثل(Breaking bad). ولكنّي بعد متابعته أراهمن وجهة نظريبأنهُ مسلسل عظيمٌ كذلك من نواحي عديدة كالإخراج ،المونتاج،  التمثيل ،الإيقاعوالبعد السيكولوجي“. وهذان العاملان الأخيران هما ما أريد التركيز عليه في هذه المقالة الانطباعية البسيطة.

.

قبل الحديث عن هذين العاملين، اسمحوا لي بهذه اللمحة المختزلة لمن لم يتابع المسلسل.

القصة باختصار تحكي عن مدرّس كيمياءنابغةاسمه (والتر وايت) لعب دورها الممثل ( Brayan Cranston) وهو شخصية لطيفة وودودةمع أسرته والآخرين ويعيش حياةً روتينيةً بسيطة. ولكن تتغير حياته كلّياً بعد اكتشاف إصابته بمرضالسرطان“. فيبدأ بخوض تجربة طبخمخدِّرالميثاميفتامينليُحقق الربح السريع لتأمين أسرته مالياً بعد وفاته بمساعدة أحد طلابهالفاشلينوالمدمنين السابقينجيسيبينكمانوهوالممثل المساعد له ( Aaron Paul ).

مع تصاعد الحبكة يخرج الوضع عن السيطرة مع الدخول في عالم تجارة المخدرات فيأخذ البعد الدرامي للقصة منحىً أكثر تعقيداً مما كان يريدهوالت” /”هايزنبيرغ“..!

.

* الإيقاع:

في فنّ الروايةبشكلٍ خاصتنقل الكاتبة بثينة العيسى هذا القول لأمبرتو إيكو في فصل (الكتابة الوصفية والإيقاع): ” إذا كان منالضروري أن يحدث شيءٌ هام ومشوق فعلينا أن نعتني بفنّ التهدئة!” وتستطرد الكاتبة بقولها : (وهذا يعني أنّ وجود مساحاتٍ هادئة منالنص، يُمكن أن يكون ضرورياً وملحاً، لإظهارالحدث الهام و المشوق“. تماماً كما يحتاج الرسّامُ إلى الظل، ليُظهرَ الضوء، ويحتاجالموسيقيُّ إلى الصمت ليُبرز الصوت).*!

.

يُمكننا إسقاط هذا القول على المسلسلات والأفلام كذلك والمسلسل المعنيّ هنا (Braking Bad) استطاع أن يُحافظ بشكل هائل على الإيقاعمراوحاً بين الهبوط والصعود في الأحداث بشكلٍ دقيقٍ جداً. ولو كنتُ واعياً لأمرالإيقاععند مشاهدتي له قبل سنوات لما كنتُ ربما توقفتُعن مشاهدته!

.

تبدأ الحلقات بمقدّمات لمشاهد إما من الماضي أو المستقبل ، وفي خلال الحلقة يتكشّف الربط الدقيق في الحبكة بين القصة وتلك المشاهدالتي عرضها لك المخرج في المقدّمة. والحلقات بدأت بالسير بهدوءٍرتيب، ومن ثمّ تصاعدت قليلاً لمستوى معين لتهبط بعد ذلك وتسير فيالرتابة وبعدها تتصاعد لمستوى أعلى قليلاًومن ثمّ تهبط وهكذا دواليك في جميع حلقات المواسم الخمسة من المسلسل.

.

الحِفاظ على الإيقاع بهذه الوتيرة غير المتسارعة كان مهماً هنا من نواحي عديدة وأهمها إبراز البُعد السيكولوجي لهايزنبيرغمن العمقللمشاهد.!

.

* البعد السيكلوجيالنفسي“:

أرى أنهُ من الضروري هنا لصقل الصورة بشكلٍ جيد أن أنقل بعض المقاطع المهمة من كتاب (التخلف الاجتماعي) للدكتور مصطفى حجازيوالتي أرى أنها تنطبق تماماً على شخصيةهايزنبيرغ“.

يقول الدكتور في الفصل الثاني من الكتاب و المُعنون ب(الخصائص النفسية للتخلف) بأنّ هناك (مجموعة من العُقد تُميّز حياة الإنسانالمقهور، أهمها عقدة النقص، وعقدة العار، مع اضطراب الديمومة و اصطباغ التجربة الوجودية بالسوداوية.) ويتناول كلَّ جانب من هذه العُقدعلى حدة، ومما جاء فيها:

١  عقدة النقص:

(تميّز مشاعر الدونية بشكلٍ عام موقف الإنسان من الوجود.فهو يعيش حالة عجز إزاء قوة الطبيعة و غوائلها، وإزاء قوة السلطة على مختلفأشكالها. مصيره معرّضٌ لأحداث وتغيرات يطغى طابع الاعتباط أحياناً والمجانية أحياناً أخرى. يعيش في حالة تهديد دائم لأمنه وصحتهوقوّته وعياله. يفتقر إلى الإحساس بالقوة والقدرة على المجابهة الذي يمدّ الحياة بنوع من العنفوان ويدفع إلى الاحترام والمجابهة….إلخ)

.

لو أسقطنا هذا المقطع على شخصيةوالتلرأيناه ينطبقُ عليه.! “والت“..مدرّس الكيمياء الودود المسكين الذي يشعر بالضعف إزاء متطلباتالحياة ليؤمّن له ولأسرته حياةً كريمة فيضطر للعمل في مغسلة سيارات حتى يستطيع الوصول للحد الأدنى من الاكتفاء المالي ولكن بلافائدة.! “والتالمهمّش نسبياً من قِبل زوجتهسكايلر“. “والتالذي يشعر بالغيرة من زوج أخت زوجته المحقق الجنائيهانكعندما يبدأباستعراض بطولاته أمامه وأمام ابنه المُعاق الذي يفخر بعمههانكوبطولاته أكثر من أبيه! ….”والتالذي كان محطّ سخرية أحد طلاّبهعندما قاموالتبغسل سيارته في المغسلة التي يعمل فيها..! .”والت“.. الذي كان يسأل نفسه بضعفٍ ويأس عندما تم تشخيصه بسرطانالرئةلماذا أنا؟!” وسأل السؤال ذاته عندما استجاب مرضهُ للعلاج الكيمائي بنسبةٍ عالية.!

.

٢عقدة العار:

( عقدة العار هي التتمة الطبيعية لعقدة النقص. الإنسان المقهور يخجل من ذاته، يعيش وضعهُ كعارٍ وجودي يصعب احتماله. إنهُ في حالةدفاع دائم ضدّ افتضاح أمره، افتضاح عجزه وبؤسه. ولذلك فالسترةُ هي أحد هواجسه الأساسية(..) هاجس الفضيحة يُخيّم عليهفضيحةالعجز أو الفقر أو الشرف أو المرض“…إلخ)*..!

.

هذه الطبيعة للإنسان المقهور كذلك نجدها متمثلةً في شخصيةوالتبعد أن اكتشف مرضه. حيث لم يُخبر أحداً بذلك بادئ الأمر ثمّ لماانتشر الخبر رفض أيّصدَقةعلى حدّ تعبيره من أيّ شخص وبالخصوص ممّن أنشآ شركةً كبيرة وكان شريكاً مؤسسا معهما لها فيالماضي البعيد، ولكنهُ لأسباب خاصة انسحب منها مغبوناً وهو صفر اليدين ليعمل معلما براتبٍ لا يكفي حاجته!.

.

٣مرحلة الاضطهاد:

….

(مع بروز التيار الاضطهادي ، تكون الحالة النفسية للإنسان، قد بلغت درجةً عالية من التوتر الانفعالي والوجودي العام. يدخل في مرحلة منالغليان الداخلي للعدوانية التي كانت مقموعةً بشدة، والتي بدأت تفلت من القمع وتطفو على السطح، بعد أن كانت مرتدةً إلى الذات من خلالأوالية التبخيس الذاتي، ومايرافقها من رضوخ مازوشي. إذ إنّ كل أواليات مرحلة الرضوخ تظل عاجزةً عن التصريف الملائم للتوتر العدوانيالناشئ عن القهر. إنها لا تفي بالحاجة إلى التوازن النفسي الضروري لأنّ الإنسان لا يمكنه احتمال التبخيس الذاتي بشكلٍ دائم. لابدّ لهمن الإحساس بشيءٍ من العزة والكرامة، بشيءٍ من الاعتبار الذاتي في نظر نفسه ونظر الآخرينإلخ)*

.

نستطيع أن نقول أن مرضوالتالخبيث هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير! إذ ألا تكفي كل صعوبات الحياة التي يمرّ بها حتى يهويعليه خبر مرضه كالصاعقة ليقع فريسةً لليأس؟!. اليأس الذي يدفعهُ لمحاولة الحفاظ على القيمة العليا لديه وهيالعائلةبأيّ وسيلةٍ كانتحتى لو كانت هذه الوسيلة غير شرعية كالانخراط في تجارة المخدراتالميثاميفتامينعلى وجه الخصوص، وحتى إن عبّد الدرب إلى تلكالقيمة السامية بعشرات الجثث!

.

ولكن هل فعلاً انخراطهُ في هذا العمل فقط لأجلالعائلةوتوفير الحماية المالية لها بعد موته؟! أم أنّ هناك سببٌ آخر يدفعهُ لمثل هذاالتمرّدالسافر؟!!

ربما نجد بعض الإجابة في الآتي :

٣مرحلة التمرد و المجابهة:

(يمدّ العنف في مجابهة المتسلّط بنوع من الإحساس بالقوة، التي تُصبح رمز الحياة. المهمة الأساسية، أو المرحلة الحاسمة في هذه المجابهةهي في التغلب على خوف الموت!.)..إلخ*

.

والتعندما أصبحهايزنبيرغالذي تحتاجهُ عصابات المخدرات لطبخالميثالأزرق النقي الفريد من نوعه، صار يغريهُ الشعور بالقوةوالسلطة التي تعوّض عليه كل سنوات التحقير و التبخيس لذاته من نفسه ومن الآخرين.! عندما انخرط في هذا المجال كان من أجلالعائلةلكنه تحوّل بعد ذلك إلى السبب الجوهري الذي دفعه للاستمرار فيه، وهو لأجلذاتهالضائعة التي وجدها ولمس قوتها وجبروتها في هذهاللعبة الشيطانية.! وقد قالها صراحةً لزوجتهسكايلرفي الحلقة الأخيرة من الموسم الخامس والأخير.! ولكن المشاهد المتتبع للتصاعدالنفسي لهايزنبيرغيتلمّس ذلك الانحراف في الغاية مع تصاعد الحبكة. ولذلك يرفضهايزنبيرغخمسة ملايين دولار من قِبل احدىالعصابات لبيع مادة (الميثلامين) وانسحابه من السوق مجيباً مساعدهُ وشريكهجيسي بينكمانالذي يحاول إقناعه بقبول العرض بقوله : ( جيسيسألتني إن كنت أعمل في صناعة المخدرات أم جني المال …. ولا واحدأنا أعمل في مجال بناء (“امبراطورية“)!

وهذه الامبراطورية هي التي تمنحه الشعور بالاعتزاز والسلطة من العمق!

.

هل هذا كافٍ لأن يشعر بكرامة ذاته وسلطته القوية من العمق ؟!

لاكان لابدّ أن يكون هناك من ضحية يُحافظ عليها ويبقيها معه دائماً لتصريف كلّ حنقهِ وغضبه وفشله الذاتي عليه، وهو شريكهجيسي“. ذلك الطالبالفاشلكما كان ينعتهُ دائماً بهذا وأكثر حتى انفجرجيسيغاضباً وفرّغ كلّ غضبه عليه في عدة مشاجرات.

.

يقول الدكتور مصطفى حجازي في فصل (التماهي بالمتسلط) في ذات الكتاب:

(يتخلّص الإنسان المقهور من مأزقه من خلال قلب الأدوار. يلعبُ دور القوي المعتدي ويُسقط كلّ ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه. (..) من خلال التماهي بالمعتدي يستعيد الإنسان المقهور بعض اعتباره الذاتي، أو على وجه الدقة يصل إلى شيءٍ من وهم الاعتبار الذاتي. كما أنهُ يتمكّن من خلال هذه الأوالية من تصريف عدوانيته المتراكمة والتي كانت تتوجه إلى ذاته، فتنخرُ كيانهُ وتُحطم وجوده..)* إلخ

ولذلك عندما كان يتعامل مع أحد تجّار المخدرات (غوستافو فرينغ) وأبدل هذا الأخيرجيسيبشخصٍ آخر تقريباً في مستوى ذكاء (والت) كمساعدٍ له، لم يُعجبوالتهذا لأنه قد سُدَّ في وجهه قناة تصريف ضعفه الذاتي وغضبه من نفسه، فهو يريد شخص ك(جيسي) أقل منهذكاء واستيعاباً ليعطيه المجال لفتح قناة التصريف الذاتية هذه عليه بجانب محبته الصادقة التي يُكنهاوالتله من العمق!

.

ختاماً أودّ أن أشير إلى أنّ الإضاءة في أغلب اللقطات المركّزة على وجوه الشخصيات في غالبها كانت تضيء نصف الوجه ، والوجه الآخريغوص في الظلال أو العتمة! وكأنّ المخرج بهذه اللعبةاللونيةإن صحّ التعبير يُريد التعبير مجازياً عن الصراع الأزلي لغريزتي الخيروالشر في ذات الإنسان. فتأمّل يا رعاك الله..!!

.

انتهى

.

هامش:

*التقطتُ الرسمة الجدارية لهايزنبيرغفي مقهىحكاية قهوةالكائن ببلدتناالمركزالأحسائية.

.

#حرفي

‏#braking_bad

#تصويري

#حكاية_قهوة

#المركز