“ وحيداً في ليلة العيد … وحيداً في المقهى ..!”
.
هل قلتُ وحيداً ؟ !
.
أعتذر منكم أيها السيدات والسادة .. فقد أخطأت ، إذ كان برفقتي سيد الصمت الكبير .. حِبر العبث الأعظم … “ صمويل بيكيت ” و المتلبّس هنا في “ مولوي “..!
أخرجتهُ قليلاً من عالم الرواية، أجلستهُ على المقعد المقابل لي متمنياً ألا يراه أحدٌ من الزبائن الداخلين أو الخارجين من الباب المجاور للطاولة، أو يتعرّف عليه أحد الندُل فيقطع علينا خلوتنا الصامتة ..!
لنقل بتعبيرٍ أدق، سلختهُ من جلد “ مولوي ” وأعدتهُ إلى صورته الحقيقية أمامي، بشَعرٍ مثل عشبٍ قصير تمتدّ رؤسهُ إلى الخلف أو تكاد ..! وأذنين كبيرتين مُشرعتين للإصغاء كجناحي نسر ،وعينين صغيرتين، زرقاوين زُرقةَ البحر !!
ويا لهما من عينين ..!!
كأنهما هاويتان بلا قرار ، تبتلعان ما تتأملانه حدّ الغرق !
.
بيكيت …. أنتَ معي وحدك هذه الليلة … ليلة عيد الأضحى – عندنا نحن المسلمون -… لا أدري إن كنتَ تعرف هذه المعلومة أم لا …. فهذا لا يهم يا صاحبي … فنقاشي معك سيكون عن معنى المفردة ذاتها …. وأرجوك أن تحملَني على محمل الجدّ وتبتعد عن العبث والسخرية قليلاً ..!
.
أفكّر في معنى ( العيد )… هل هو ثابتٌ في كل زمان ومكان أم متغير … ؟ ! هل كان ( العيد ) متخماً بالمعنى عندما كنا صغاراً فتغذينا من حبله السري … حتى كبرنا وانقطع الحبلُ … وخوى بطنهُ من المعنى .. ؟ !
.
هه … أعلم مايدورُ في ذهنك يا صاحبي ، ستقول بأن الأمر نسبي …. يختلف من شخص إلى آخر … لكني أحدّثك عنّي الآن وأشاركك هواجسي التي يضطرمُ لهيبها في رأسي الذي تشتعلُ شعيراتهُ شيباً يوماً بعد يوم ..!
.
قل لي … إن كان العيد مازال محافظاً على معناه … فلماذا لا أسمع الآن وقع خطواته المُبهجة في قلبي مثلما كان يُطربني إيقاعهُ عندما كنتُ غضاً طرياً .. ؟ !
كنتُ فيما مضى أستقبلهُ استقبال الوالهين، بثوبين جديدين، ثوبٌ أبيضٌ بكُمّين مفتوحين، وثوبٌ أصفرٌ بكمّين ينغلقان على رسغ اليدين بزرّين صغيرين، أو ( كبكين ) كنتُ قد اشتريتهما قبل العيد بأسبوعين على الأقل …. والعكس في اللونين صحيح !
.
فتمرّ عليّ ساعاتُ الصباح الأولى وأنا أجرّب كلا الثوبين مرةً بعد مرة حائراً ( بأيّ ثوبٍ من الأثواب ألقاهُ )* في يومه الأول … كما يقول عمّنا نزار قباني
.
أما الآن فها قد أتى العيد …. دون أن أهتمّ ما إذا كنتُ سأستقبلهُ بثوب ٍجديدٍ أم قديمٍ أستلمهُ من مغسلة الملابس الكائنة في القرية المجاورة قبل ساعاتٍ من بزوغ شمس يومه الموعود ..!
.
أجبني …. ما معنى أن أستقبل هذا العيد يا صاحبي …. بحذاءٍ أنهكتهُ الطرقات …. دون أن أعيرَ بالاً لذلك .. ودون ملابسٍ داخليةٍ جديدة لن يراها أحدٌ سواي .. ؟ !
.
ما معنى ( العيد ) في ظلّ كلّ هذا الفقد الهائل الذي يقضم أطرافه مثل جراد ..!! ؟
بيكيت …. هل ما أشعرُ به الآن اتجاه ( العيد ) ، هو أحد ملامح العبث الذي تُشير إليه بخنصرك الحاد وتفقأ به عين العالم .. ؟ !
.
.
.
انتبهتُ على صوت النادل وهو يقول لي :
Sorry sir, we will close now!
.
اعتذرتُ إليه … ودفعتُ ثمن القهوة و الشاي … ولم ألمح بيكيت أمامي … ولكنّي أحسستُ بوخزٍ شديدٍ في عينيّ … فركتهما كمن يفركُ عبثاً بقعةً عصيةً على الإزالة من أحد ثيابه …! فتحتُ كاميرا ( السناب ) محاولاً أخذ صورةٍ كاذبةٍ بمناسبة العيد … فلمحتُ اصبعاً حادةً مغروزة في كلتا عينيّ مثل خنجر ..!
.
.
# عدنان _ المناوس
ليس عنواناً مجازياً، ولا استعارة أدبية جمالية، فمن أين نتلمس الاستعارات الجمالية في مُفردة أضحت أكثر المفردات رعباً ووحشةً للإنسان منذ أن ارتبط “ الخفّاش ” بجائحة ” كورونا “… حمانا الله وإياكم من شرها المُستطير !
.
.
“ خفّاشٌ في المكتبة “
هكذا بكل بساطةٍ مخيفة .. وقدَرٍ سماويٍّ غريب ….” خفّاشٌ في المكتبة “..!!
.
استيقظتُ مبكّراً هذا الصباح، لا لشيء إلا لأن ساعتي البيولوجية ترفض أن توقف رنينها في رأسي كلّما أطلتُ في النوم … و الفضل يعود في ذلك “ للدوام ” طبعاً … و الدوام لله ..!!
قلتُ في نفسي بعد أن انتعش جسمي قليلاً بحمّام شبه دافئ … طالما نحن مازلنا ( بين بين )… بين الشتاء والصيف ..!
فلأدخل المكتبة وأكمل الرحلة الأندلسية في ( ثلاثية غرناطة ) ل “ رضوى عاشور ” أو العدمية في ( مثالب الولادة ) ل “ سيوران ” أو الشعرية في ( فمٍ يتشرّد في جهات الجمر ).. ل “ إبراهيم الحسين “..!
.
ولكن كلّ هذا لم يحدث … والسبب بكل بساطة ( خفّاشٌ في المكتبة )..!
.
دخلتُ المكتبة كما يدخل المؤمنون الجنة ( بسلامٍ آمنين )…! رفعتُ شنطة الكتب الزرقاء التي ترافقني أينما ارتحلتُ وحللتُ .. إلا أنني – ويا لسوء الطالع – لمحت جسد الخفاش البنّي متعلقاً على ظهرها مطمئنا وسكراناً برائحة الكتب ..!
وإذا بي – بدافعٍ من غريزة النجاة المحضة التي اجتاحتني رعشتها من أطول خصلة في شعري بقيت واقفةً مثل نخلة لم ينجح “ المشط ” في إنزالها على ظهرها … إلى أطول ظفرٍ في قدمي – أنزلتُ الشنطة مرةً أخرى إلى الأرض حاجزاً “ الخفاش ” بين ظهر الشنطة و الأرضية بسرعة البرق … متسائلاً في أعماقي بكل علامات التعجب والاستنكار ….( خفاشٌ في المكتبة ..!!!)
.
استجمعتُ في كفّيّ قوةّ لا أعلم من أين أتت عظمتها … ضربتُ الشنطة على بطنها مثل ممسوسٍ ضربات لم أفكّر في إحصائها …. سمعتُ أنةً حادةً وأنا أضرب الشنطة ولم أتوقف … سمعتُ صوت شيءٍ يتكسّر في الشنطة …. حسناً ربما قلمي … اللعنة ( ياروح مابعدك روح ).. ولم أتوقف … أخذت شنطة مستطيلة أخرى وأكثر صلابةً من هذه قريبةً مني تحمل في داخلها درعاً بمناسبة إكمالي لخمس سنوات في وظيفتي … وزدتُ الثقل على الشنطة بها ورحتُ أضرب ولم أتوقف …! فما زلتُ تحت سكرة الصدمة حيث ( خفّاشٌ في المكتبة ..)!
.
في النهاية توقفت …. رفعتُ شنطة الدرع … وبدأتُ أرفعُ الشنطة الأخرى بحذر من طرفها العلوي .. شيئاً فشيئاً لأتأكد من أن هذه الضربات لم تذهب سدىً … وتأكدّ لي ذلك عندما رأيت أثراً من دمائه السائلة من رأسه المفضوخ تحت وقع الضربات الهستيرية ..!
.
كنستهُ ورميتُ كلّ ما استعملتهُ في محو آثار المعركة، وعقّمت المكان … إلا أنني لم أكنس أثر الصدمة من عروقي ..! خرجتُ قليلاً لعل رياح اليوم المُثقلة بالغبار … تُطيرّ الصدمة … لكنّ التفكير بالاحتمالات اللامتناهية من كيفية دخوله للمكتبة لم تفارق ذهني كلّما خطفَ طيفُ صورته اللعينة أمام عينيّ … عدتُ للمنزل … دخلت المكتبة .. ولأول مرةٍ لم أشعر بتلك الطمأنينة والسكينة التي تبعثها هذه “ الجنة ” على حد تعبير “ بورخيس ” إذ مازلت أسمع الصدى في أعماقي يردد “ خفّاشٌ في المكتبة “..!!
.
حاولتُ مرةً ومرتين وثلاث … ولكني في كل مرةٍ أدخلها … أشعر أن هناك واحدا آخرا أو ربما قبيلةً من الخفافيش سوف تخرج لي من بطون الكتب وتهاجمني انتقاماً لذلك الخفاش الذي تسللّ خفيةً من المجهول فنال جزاء هذا التسلل الغير مشروع ..!!
.
.
وها هو اليوم شارف على نهايته …. ولم أدخل المكتبة كعادتي اليومية … ولم أكمل فيها لا ( ثلاثية غرناطة ) ولا ( مثالب الولادة ) ولا ( فمٌ يتشرّد في جهات الجمر ) على خلفية موسيقى الجاز وأجواء المقاهي التي أستمع إليها من منصة “ اليوتيوب ” وقت القراءة ولا أكملتُ الساعة المتبقية الأخيرة حتّى من الفيلم الطويل للمخرج الفلبيني الكبير ( لاڤ دياز ) (From What is Before ) والممتد لخمس ساعات ونصف ….. و السبب في ذلك كله ….( خفّاشٌ في المكتبة )..!!
.
.
عدنان المناوس