“ قراءة في رواية الجحيم لهنري باربوس “
.
( كنتُ أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم ). خبطت رأسي هذه العبارةُ مثل حجر، عندما كنتُ أقرأ الفصل الأول من كتاب ( اللامنتمي ) للكاتب الإنجليزي كولن ولسون، حيث صدمتني هذه الجملة وأنا أقرأ ما اقتبسهُ الكاتب من رواية الجحيم لـلكاتب الفرنسي هنري باربوس . فتوقفتُ قليلا، وأعدتُ قراءة المقطع المقتبس من جديد كاملاً، متأملاً في شخصية البطل من العمق . وأنا الممسوس بقراءة الروايات التي تتناول الشخصيات الغريبة والنافرة من المحيط الاجتماعي والنفسي الساكن والرتيب . وهي ذات الشخصيات التي صنّفها كولن ولسون بالشخصيات ( اللامنتمية ). فعرفتُ حينها لماذا شدّتني شخصية ( روكانتان ) في ( الغثيان ) لسارتر أو ( ميرسو ) بطل رواية ( الغريب ) لكامو أو معظم أبطال ( دوستويفسكي ) الروائية وغيرها . ولكن لماذا اخترتُ الكتابة الآن عن رواية ( الجحيم ) وبطلها على وجه التخصيص؟ ! لأنها الرواية التي جعلتني ( أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم !).
.
صدرت الرواية الأصلية بلغتها الفرنسية عام 1918 م بينما الطبعة المترجمة التي قرأتها لها كانت صادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2016 م بترجمة رائعة للكاتب والمفكر اللبناني جورج طرابيشي .
كُتبت الرواية من وجهة نظر بطلها المضطرب الكئيب والذي ظلّ بلا اسم ولا انتماء طيلة الرواية في سرده للأحداث بضمير المتكلم . وكأن الكاتب كان يريد بعدم تسميته، أن يذلّل كلّ حاجزٍ يحول بين القارئ وبين العيش في أجواء القصة والذوبان في ذات بطلها حدّ الاتحاد والحلول، فيذوق حينها كلّ عذابات بطل الرواية ووحشته الهائلة . تلك الوحشة التي يصفها الكاتبُ على لسان شخصيته بقوله : ( إنني ألمحُ في هذا الجو الذي أخذ الظلام باجتياحه، بروز جبهتي وبيضوية وجهي، وتحت جفنيّ الراف نظرتي التي أدخل بها إلى ذاتي وكأني داخل إلى قبر !).
جاء صوتُ الراوي في الرواية بصيغة ( ضمير المتكلم ) ، وأراه هنا مناسبا تماماً لنقل وجهة نظر الرواية للقارئ من بين تقنيات الأصوات الروائية الأخرى لسببين رئيسيين :
أولاً : بطل الرواية كان يراقب حيوات بشرية متعددة تمرُّ عليه من ثقبٍ في جدار غرفته يطل على الغرفة المجاورة في أحد نُزل باريس . وهي المكان الذي أغراه بلعب دور الإله في مراقبة العابرين الذين ينزلون في تلك الغرفة مؤقتا ويمضون وهم لا يعلمون أن هناك عيناً تراقبهم من ثقبٍ في الجدار سوف يحكي صاحبها ما جرى بينهم هناك بالتفصيل على شكل رواية . لذلك كان صوت بطل الرواية هو الأنسب لسرد تلك الأحداث من وجهة نظره .
ثانياً : في روايةٍ كهذه تتكأ على البعد السيكولوجي لبطلها اتكاءً شبه تام، أرى أنّ ( ضمير المتكلم ) يساعد بشكلٍ أعمق على الإمساك بتلابيب القارئ وجعلهِ يغوص لاشعورياً في أمواج الاضطرابات السيكولوجية العاتية في أعماق الشخصية الروائية ليسبر أغوارها المخفية خلف الكلمات بحيث يّمحي الحدُّ الفاصل بين العالم الروائي والعالم الواقعي فتسكن القارئَ الشخصيةُ الروائية حتى بعد انتهائه من قراءة الرواية بقدر ما استطاعت هذه الشخصية أن تجرّهُ إلى أعماقها .
أما من ناحية ( الحوار ) ، والذي يشكّل أحد أهم الأركان التي يقوم عليها بناء الرواية بشكل عام . نجد أنَّ الحوار في طابعه العام هنا ينقسم إلى قسمين : الحوارُ الداخلي بين البطل ونفسه ( المونولوج ) ، ونقل الحوارات التي يسترق السمع لها عند اختلاسهِ النظر للشخصيات القاطنة في الغرفة المجاورة من خلال ثقب الجدار .
وفي كلا الأمرين، لم أجد هناك حشواً أو ترهلاً باعثا للمللِ في الحوارات، بل ظلَّت تتدفق في جسد الرواية تدفق الدماء في الشرايين حيث الحوار في أيِّ روايةٍ هو ( الشريان الذي يمد الرواية بالحياة ) على حدّ تعبير الكاتب عبدالرحمن منيف والذي نقلتهُ الكاتبة بثينة العيسى في كتابها ( بين صوتين ). وقد تمّ ذلك من خلال تحقيق شرطين مهمين في الحوار حددتهما الكاتبة الإيرلندية إليزابيث بوين بقولها إنه ( يجب على الحوار أن يدفع بالحبكة، وأن يعبّر عن الشخصية ) كما نقلت عنها بثينة العيسى في ذات الكتاب .
وأقتبس هذا كمثال على ذلك :
( هل أنا سعيد؟ أجل، إنني لا أعيش في حداد، ولا في حسرات، وليست بي رغبةٌ معقدة . إذن أنا سعيد، إنني لا أذكر أنه كانت تنتابني منذ أن كنتُ طفلاً إشراقات من العواطف، إشفاقات صوفية، حبٌ مرضي لحبس نفسي بمفردي مع ماضيي ).
والتوظيف الوصفيّ في الرواية لا يقلُّ شأناً عن الحوار كذلك، فالوصف هنا يشدُّ القارئ لأحداث الرواية بحبلٍ لا يترهل ولا ينقطع . إذ بالأسلوب الوصفيّ المدهش والخلاّق للكاتب يُصبح القارئُ ذاتهُ جزءاً من الحدث بمشاركته حسياً فيه . وهي الغاية المنشودة من الوصف كما يرى الكاتبُ الأمريكي ستيفن كينج ( بأنَّ الوصف هو وسيلتك لجعل القارئ مشاركاً بحواسه في الحكاية، الخدعة أن تجعله يرى ما يحدث ويسمعه ويشمه ) في كتابه ( عن الكتابة : ذكريات عن الصنعة / On writing: A memoir Of the Craft ).
ولنأخذ هذا المشهد من الرواية كمثال :
( أشعلَ سيجارةً، لمحتُ أساريرهُ التالفة، لحظة أضاءها البصيصُ الصغير السريع وحطَّ عليها كقناعٍ متوهج، ثم دخّن في القمة الشفافة، ولم أكن أميز إلا السيجارة الملتهبة التي تحركها ذراعٌ مبهم، خفيفة كالدخان الذي تنفثه، وحين كان يقرّب السيجارة إلى فمه، كنتُ أرى نورَ زفيره الذي سبق ورأيتُ ضبابه في رطوبة المكان ).
.
ختاماً، احدى مأثورات كافكا تقول : ( على الكتابِ أن يكون الفأس التي تكسرُ البحر المتجمد فينا ) وأرى بأن رواية ( الجحيم ) هنا على مختلف الأصعدة الأدبية، الثقافية، السيكولوجية والفلسفية تكسرُ الجليدَ القابع في أعماق وعي القارئ ورؤيتهِ الكونية، فيُبعث من سكونهِ انساناً مختلفا يرى أكثر وأعمق من اللازم، كبطل الرواية تماما !.
.
# عدنان _ المناوس
# حرفي
# الجحيم
# هنري _ باربوس
2 تعليقان