ظلال

على الحافة بقدمٍ واحدة..!

((إلى القصة وعنهافي يومها العالمي))

.

(اسحب كرسيّك إلى حافة الهاويةسوف أروي لك قصة)*!

هكذا ينادي سارد القصص والروايات العظيم سكوت فيتسجيرالد المتلقي لأن يشاركه التوتر الذي يغلي في الدم نتيجة الاستماع لقصة ماتقع أحداثها في عالم موازي يقع هو الآخر على الضفة الأخرى من الحياة, ألا وهو عالم المخيلة الرحب. حيث يضع المتلقي معه على الحافةمحافظا على الحد الفاصل بين العالم الواقعي والخيالي، محافظا على هذا التوتر الذي يجعل المتلقي يسير على هذا الخط الفاصل بينالعالمين بقدم واحدة مثل بهلواني. إن سكوت فيتسجيرالد يعي تماما أن الجمالية في سرد الحكايا تكمن في هذا التوتر الفاتن الذي ينأىبالمتلقي عن الغرق التام في العالم الموازي حيث يتركه القاص الحاذق مثل ريشة تلهو بها الريح في دائرة هذا القلق الجميل. هذا الحدالفاصل الذي يشبه الحالة المضطربة بين الحلم واليقظة إذ ينام الجسد وتبقى المخيلة تروي القصص على شكل أحلام ورؤى، ولربما هذا هو سرّ هوس الإنسان بالقصص منذ بداية تفتّق الوعي الإنساني على عوالم الحكاية..سواء كان بحثاً عن المتعة ..أو سعياً إلى الخلود..!

.

القصة كذبة؟! نعم لا نختلف في ذلك.. إلا أنها تكون كذبةً صادقة إذا ما أتقن القاص الحاذق حكايتها وأقنع المتلقي بصدق كذبته. كما يقولالكاتب الأمريكي راي برادبيري : (أن تكذب برقة، وتبرهن على صدق كذبتك..)! وهنا إذا كان سكوت فيتسجيرالد يضع المتلقي على حافة الهاوية ولا يدعوه للسقوط, فراي برادبيري يدعو الكاتب للسقوط في هذه الهاوية بقوله للكاتب القادم الآخر : (إنه دورك الآن, اقفز) ! ومن هذين الرؤيتين نتلمّس الفارق الشفيف بين السقوط الكلي للكاتب في الهاوية وقلق المتلقي الواقف على حافتها!

.

#حرفي

#عدنان_المناوس

#القصة_القصيرة

#اليوم_العالمي_للقصة_القصيرة

تأملات في السينما الشعرية

(محاولة لإيجاد نقاط التناص بين بعض المفاهيم السينمائية و الشعرية الحديثة)

 

عندما أعود للماضي البعيد, وأعني بالتحديد ماضي تحولات المفاهيم الشعرية التي مررتُ بها متأثرا بعدة عوامل خارجية وداخلية منذ أن تبرعم الشعر في ذاتي ونما نصا فنصا, على مدى هذه الحياة العابرة التي طاردت فيها ومازلت غزلان الأدب والفن والجمال في غابة العمر الموحشة, أتذكر عدة “صدمات شعرية” -إن صحً التعبير بذلك-, كونت لدي رؤى حياتية وشعرية مختلفة ووسًعت من مدارك الشعر ورؤيتي الذاتية له أكثر فأكثر. 

 

والسينما كذلك لم تخل من صدمات تسبّبت في توسّع إدراكي لهذا الفن السابع وانقداح شرارة التحولات في المفاهيم السينمائية التي صاحبت رؤيتي له فيلما ففيلما. وأول صدمة سينمائية أصابتني هي الصدمة التي صاحبتني عند مشاهدة فيلم ( المطارد/ (Stalker للمخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي الذي أخرجه عام 1979 م حيث كانت أبجديات الفيلم مختلفة كليا عما هي مألوفة بالنسبة لي, وأعني بذلك التقنيات “الهوليوودية” التجارية على وجه الخصوص. 

 

بعد هذه المقدمة التي كانت شرا لابد منه أدخل إلى المقاربة بين الشعر كلغة مكتوبة وبين الشعر كصورة مرئية سينمائية! 

 

وهنا سأختار شخصيتين بارزتين أثرتا على مفهوم الشعر والسينما على حد سواء, هما الشاعر والمفكر الكبير أدونيس, والمخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي. 

 

وقبل ذلك أيضا علي أن أوضح ماهو المقصود ب (السينما الشعرية). 

 

في الواقع مفهوم (السينما الشعرية) ضبابي ومُلتبس إلى حد ما حتى عند الكثيرين من النقاد والمخرجين أنفسهم, ولكني أميل للرأي الذي يقول بأن السينما الشعرية (لا تعني أن نعالج قصيدة شعرية سينمائيا)*1, أي أن يكون الفيلم مبنياً على نص شعري كما هو فيلم (تروي/Troy) أو (حصان طروادة) المبني على النص الشعري الملحمي ل (هوميروس) في الإلياذة والذي أخرجه المخرج الألماني ولفغانغ  بيترسن/ Wolfgang Petersen  والذي أدى فيه دور (أخيليس/ Achilles ) الممثل الأمريكي براد بيت/ Brad Pit عام 2004م . 

 

إنما (السينما الشعرية) كما يعبر بذلك المخرج السويدي انجمار بيرغمان- (سينما أحاسيس)*1. أو كما يصرح المخرج والشاعر الفرنسي جون كوكتو بأن (السينما الشعرية سينما تفكير, فالمشاهد مُطالب بأن يفكر ويحلل وأهم شيء أن يحس)*1

ومن هذا الباب نفهم أن السينما الشعرية هي في العمق معالجة الفيلم بجميع أبجدياته معالجة شعرية من الجذور تتناص مع المفاهيم الشعرية –الحديثة- بشكل خاص, أي أنّ السينما الشعرية هي محاولة كتابة قصيدة ما بالأدوات البصرية! 

ويُعتبر الشاعر والمخرج الإيطالي الكبير( بازوليني /  Pasolini 1922-1975) هو أول من أطلق هذا المسمى وعالجه نقديا في نصه النظري (السينما الشعرية) المنشورعام 1965 م وإن كان سبقه في ذلك (الشكلانيين)* الروس في رصد ملامحها الأولية*2. 

 

يرى بازوليني على أن جوهر اللغة السينمائية هي لغة شعرية تتكئ على سيميولجية الصورة المرئية (علم الإشارات) وهو الذي يقف بالضد من المفهوم الشائع للسينما ولغته السردية/النثرية المتكئة على المفهوم القصصي والحبكة الدرامية. ويُقسم بازوليني نظريته عن السينما الشعرية إلى قسمين رئيسيين هما (الصورة الإشارية, والخطاب الحر غير المباشر)*3

 

و من باب هذا التقسيم يمكن أن نقارب هذه الرؤية السينمائية مع اللغة الشعرية الحديثة من حيث قابليتهما للتأويل اتكاء على ما تحمل من إشارات ورموز دلالية مرئية كانت أم مكتوبة.

لكن يرى بازوليني أن الكاتب الأدبي يمارس دور واحد بتقنية أحادية هي “الكتابة” بينما السينمائي يمارس دورين مزدوجين: 

 

الأول لغوي تقني عن طريق جمع الصور/المفردات من منابع كثيرة كالذاكرة والأحلام ومحيط السينمائي الخارجي ولثاني هو ترتيب هذه الصور في عملية الإنتاج لإيصال المعنى أو الشعور المنشود للمشاهد. 

 

ومن هنا يطرح بازوليني في نظريته تساؤلات عميقة كـ(كيف يمكن للغة الشعر أن تتحقق في السينما؟ وهل حقا هذه اللغة ممكنة في السينما؟! وهل يمكن لأسلوب (الخطاب الحر غير المباشر) (الذي طالما ميز الشعر) يجد طريقه للصورة السينمائية؟!) *2

 

ولكي يجيب بازوليني على هذه التساؤلات يقوم على تحليل مايسميه بـ(مفهوم اللغة الشعرية التقنية) وهي ( الذاتية والأسلوب ودرجة الوعي) وهو مايتقاطع تماما مع مفهوم تاركوفسكي للسينما الذي يرى بأن الفيلم لابد أن يحمل طابع الذاتية والرؤية الخاصة للمخرج للحياة القائمة على مخزون الذاكرة وعبث الأحلام ورمزيتها الدلالية كما أشار لذلك في فيلمه الوثائقي ( رحلة عبر الزمن/Voyage in Time) الذي وثق فيه رحلته مع الشاعر والسيناريست الإيطالي الكبير تونينو جييرا عام 1983 م في البحث عن موقع لتصوير فيلمه القادم هناك (حنين/Nostalgia). فعندما كان يقرأ عليه سؤالا من أحد محبي تاركوفسكي عن ماهي توصياته الرئيسية التي يود أن يقدمها للمخرجين الشباب المبتدئين فيجيب بذلك عليه أنه (على المبتدئة ألا يفصلون أعمالهم, أفلامهم, أشرطتهم السينمائية عن الحياة التي يحيوها, وألا يؤسسوا لاختلافٍ فيما بينهم وبين سينمائهم لأن المخرج كأي فنان آخر , الرسام, الشاعر, والموسيقي, وعندها فإنه مطلوب منه أن يُشرك ذاته الخاصة. إنه من الغريب أن ترى مخرجين يتعاطون مع أعمالهم كوضع خاص مُنحوا إياه عبر القدر, وأنهم أنجزوا عملهم ببساطة بشكل يدعو للمفخرة ,هكذا بأن يحيوا بطريقة ما, وأفلامهم تحكي عن أشياء أخرى……إلخ).

 

وهذا المبدأ يتقاطع أيضا مع مفهوم الشعر الحديث الذي يتقاسمه كبار الشعراء وعلى رأسهم(أدونيس) إذ يقرر في احدى سلسلة حواراته مع قناة الميادين (هذا هو اسمي..أدونيس)  أن على الشاعر (أن يكتب تجربته الذاتية,فالشعر يكمن في الذاتي الخاص وليس في العام المُشترك لذلك على الشاعر أن يكتب مثلا تجربته في الحب لا عن الحب بشكل عام)! 

 

الجدير بالذكر أن تاركوفسكي ينحاز لشكل السينما الشعرية التي تبلورت مفهومها في أفلامه المتأخرة بشكل خاص كـ (المطارد/Stalker) ,(حنين/Nostalgia) و (مرآة/Mirror ) والذي يعتبره بعض النقاد أكثر أفلامه رمزية.*4

 

ويقف كما يشير في فيلمه الوثائقي ( رحلة عبر الزمن/Voyage in Time)ضد السينما السردية التجارية الشائعة المرصوفة بالقواعد السينمائية الكلاسيكية إذ نفهم منه بأن لغة الصورة هي لغة حرة ,كلغة الشعر الحديث تماما التي لا تقوم على القواعد العروضية الكلاسيكية. إذن من هنا نرى بأن الشعر والسينما يتقاطعان أيضا في ذات المفهوم المتمرد على القواعد والحبكات الجاهزة.

 

لذلك تعتمد السينما الشعرية على دهشة الصورة بأبعادها الزمانية والمكانية في المتلقي وهذا جلي وواضح في البطء الزمني الحاصل في أفلام تاركوفسكي –على سبيل المثال- (الذي يرى بأن كل لقطة هي خلاصة اللقطات السابقة جميعها وهو جوهر الإنتاج عنده وليس التتابع الصوري الديناميكي للمشاهد)*4. وكأنه كذلك كما يقول بازوليني (أن تجعل الكاميرا تشعر)*3

 

يقول أدونيس في ذات اللقاءات مع قناة الميادين بأنه يبحث عن القارئ النوعي, القارئ المتفاعل الذي يتفاعل مع النص ويشترك معه في توليد المعاني , وإن أراد القارئ أن يفهم أدونيس عليه ألا يكتفي بقراءته شعريا بل بالإلمام بكل تجربته الثقافية والفكرية الإبداعية حتى يقرأ أدونيس شعريا بشكل أعمق! 

 

ويمكننا إسقاط هذه الفكرة على أفلام تاركوفسكي ولنأخذ على سبيل المثال فيلم (مرآة/Mirror) الذي كما أشرت سلفا يعتبره الكثير من النقاد أكثر أفلامه رمزية, ولكن من الممكن أن يفكك المشاهد بعض هذه الرموز إذا علمَ أن هذا الفيلم يحتوي على مخزون كبير من ذاكرة تاركوفسكي الشعرية والحياتية مع أبيه مثلا وهو الشاعر الروسي (وارسيني تاركوفسكي) والذي ضمّن الفيلم بعض أشعاره. 

 

عموما هناك أمثلة كثيرة على السينما الشعرية والممهّدة لها كأفلام المخرج السويدي الكبير انجمار بيرغمان أو الإيراني الشاعر المخرج الكبير عباس كياروستامي وغيرهم. ولكني سأكتفي هنا بمثال أخير وهو الفيلم القصير (كلب أندلسي/Un Chien Andalou) الذي أخرجه المخرج الأسباني السوريالي العظيم لويس بانويل (1900-1983) بالمشاركة مع الفنان السوريالي العظيم الآخر سلفادور دالي ( 1989-1904) عام 1929 م والذي يعتمد على الصورة الرمزية الدلالية بشكل صارخ مستغنيا بذلك عن اللغة المنطوقة. فمشهد مثل خروج النمل من الكف لا يمر من دون ترك أي أثر على وعي و لاوعي المشاهد! 

 

و ختاما أود أن أقول بأن السينما الشعرية تختلف جوهريا عن السينما السائدة السردية بكل أبجدياتها وأركانها ومفاهيمها, وحتى لا تقع أيها القارئ الكريم في الخطأ الذي وقعتُ فيه أنا عندما شاهدت فيلم المطارد/Stalker  – كما ذكرت في بداية المقال- في حال أردت أن تلج إلى عالم (السينما الشعرية) من بوابته (الضيقة), فعليك أن تخلع عنك عباءة كل معايير (السينما /النثرية) عند العتبة وتدخل إلى عالم السينما وكأنك تدخله لأول مرة وحيئذ فقط ستتقبل هذا النوع الفريد والجميل والمدهش! 

………………. 

بقلم: عدنان المناوس-السعودية-المنطقة الشرقية-الأحساء 

 

هامش:

* الشكلانية الروسية هي مدرسة أدبية ازدهرت في موسكو عام 1915م, ركزت على تلقي النص ذاته كمنتج أدبي مستقل عن ضوء كاتبه بكل مايكتنزه الكاتب من آثار ثقافية وتاريخية وغيرها.

المصادر: 

  

1- مقال (السينما الشعرية و سينمائية القصيدة) للمخرج حميد عقبي المنشور في (ديوان العرب) 

2- كتاب (سينما الشعر- جدلية اللغة والسيميولوجيا في السينما) للكاتب عبدالكريم قادري. 

3- مقال (سينما الشعر: قصائد السينما المرئية) ل أحمد عزت المنشور في موقع (إضاءات) 

4- مقال (وقفة مع شاعر السينما الراحل أندريه تاركوفسكي) للناقد جواد بشارة المنشور في مجلة (نزوى 

Breaking Bad

عندما بدأ عرض مسلسل “Breaking Bad” عام 2008 شاهدتُ منه حلقتين. وتوقفت عن مشاهدته لأنني شعرتُ بالضجر!. ولكي أكونصريحاً معكم، أنا لستُ شغوفاً بالمسلسلات كثيراً كشغفي بالأفلام وإن كنتُ متابعاً لبعضها.

حينها لم أكن واعياً للعبة، أقصد اللعبةالإخراجيةللمسلسل فضلاً عن فنّالإخراجبشكلٍ عام.وعلى أية حال لم أُكمل متابعته. ولم أعدإلى مشاهدته مرةً أخرى إلا هذه السنة (2021) بعدما طاردتني ضجّته الإعلامية في كل زاوية من زوايا الحساباتالانستجراميةالمهتمة بالسينما والمسلسلات ناهيك عن صورة (هايزنبيرغ) المعلّقة أو المرسومة على جدران بعض المقاهي، وكأن القدر يناديني لمتابعته من جديد!. فتابعتهُفقط لأُخرس صوتَ الفضول الذي يرنّ في رأسي كلّما لمحتُ تبجيلاً له في مكانٍ ما.

ولذلك شاهدته وأحببته.وإن كنتُ مازلتفي بعض النواحي الفنية وبعض ملامح العمق الانساني (فلسفيا، أدبيا وسيكولوجياً) – أُفضّلمسلسلات أخرى عليه ك (My brilliant friend ) و (Black Mirror )و ( Dekalog) وهي مسلسلات لم تحظ ربما بالمتابعة العالية مثل(Breaking bad). ولكنّي بعد متابعته أراهمن وجهة نظريبأنهُ مسلسل عظيمٌ كذلك من نواحي عديدة كالإخراج ،المونتاج،  التمثيل ،الإيقاعوالبعد السيكولوجي“. وهذان العاملان الأخيران هما ما أريد التركيز عليه في هذه المقالة الانطباعية البسيطة.

.

قبل الحديث عن هذين العاملين، اسمحوا لي بهذه اللمحة المختزلة لمن لم يتابع المسلسل.

القصة باختصار تحكي عن مدرّس كيمياءنابغةاسمه (والتر وايت) لعب دورها الممثل ( Brayan Cranston) وهو شخصية لطيفة وودودةمع أسرته والآخرين ويعيش حياةً روتينيةً بسيطة. ولكن تتغير حياته كلّياً بعد اكتشاف إصابته بمرضالسرطان“. فيبدأ بخوض تجربة طبخمخدِّرالميثاميفتامينليُحقق الربح السريع لتأمين أسرته مالياً بعد وفاته بمساعدة أحد طلابهالفاشلينوالمدمنين السابقينجيسيبينكمانوهوالممثل المساعد له ( Aaron Paul ).

مع تصاعد الحبكة يخرج الوضع عن السيطرة مع الدخول في عالم تجارة المخدرات فيأخذ البعد الدرامي للقصة منحىً أكثر تعقيداً مما كان يريدهوالت” /”هايزنبيرغ“..!

.

* الإيقاع:

في فنّ الروايةبشكلٍ خاصتنقل الكاتبة بثينة العيسى هذا القول لأمبرتو إيكو في فصل (الكتابة الوصفية والإيقاع): ” إذا كان منالضروري أن يحدث شيءٌ هام ومشوق فعلينا أن نعتني بفنّ التهدئة!” وتستطرد الكاتبة بقولها : (وهذا يعني أنّ وجود مساحاتٍ هادئة منالنص، يُمكن أن يكون ضرورياً وملحاً، لإظهارالحدث الهام و المشوق“. تماماً كما يحتاج الرسّامُ إلى الظل، ليُظهرَ الضوء، ويحتاجالموسيقيُّ إلى الصمت ليُبرز الصوت).*!

.

يُمكننا إسقاط هذا القول على المسلسلات والأفلام كذلك والمسلسل المعنيّ هنا (Braking Bad) استطاع أن يُحافظ بشكل هائل على الإيقاعمراوحاً بين الهبوط والصعود في الأحداث بشكلٍ دقيقٍ جداً. ولو كنتُ واعياً لأمرالإيقاععند مشاهدتي له قبل سنوات لما كنتُ ربما توقفتُعن مشاهدته!

.

تبدأ الحلقات بمقدّمات لمشاهد إما من الماضي أو المستقبل ، وفي خلال الحلقة يتكشّف الربط الدقيق في الحبكة بين القصة وتلك المشاهدالتي عرضها لك المخرج في المقدّمة. والحلقات بدأت بالسير بهدوءٍرتيب، ومن ثمّ تصاعدت قليلاً لمستوى معين لتهبط بعد ذلك وتسير فيالرتابة وبعدها تتصاعد لمستوى أعلى قليلاًومن ثمّ تهبط وهكذا دواليك في جميع حلقات المواسم الخمسة من المسلسل.

.

الحِفاظ على الإيقاع بهذه الوتيرة غير المتسارعة كان مهماً هنا من نواحي عديدة وأهمها إبراز البُعد السيكولوجي لهايزنبيرغمن العمقللمشاهد.!

.

* البعد السيكلوجيالنفسي“:

أرى أنهُ من الضروري هنا لصقل الصورة بشكلٍ جيد أن أنقل بعض المقاطع المهمة من كتاب (التخلف الاجتماعي) للدكتور مصطفى حجازيوالتي أرى أنها تنطبق تماماً على شخصيةهايزنبيرغ“.

يقول الدكتور في الفصل الثاني من الكتاب و المُعنون ب(الخصائص النفسية للتخلف) بأنّ هناك (مجموعة من العُقد تُميّز حياة الإنسانالمقهور، أهمها عقدة النقص، وعقدة العار، مع اضطراب الديمومة و اصطباغ التجربة الوجودية بالسوداوية.) ويتناول كلَّ جانب من هذه العُقدعلى حدة، ومما جاء فيها:

١  عقدة النقص:

(تميّز مشاعر الدونية بشكلٍ عام موقف الإنسان من الوجود.فهو يعيش حالة عجز إزاء قوة الطبيعة و غوائلها، وإزاء قوة السلطة على مختلفأشكالها. مصيره معرّضٌ لأحداث وتغيرات يطغى طابع الاعتباط أحياناً والمجانية أحياناً أخرى. يعيش في حالة تهديد دائم لأمنه وصحتهوقوّته وعياله. يفتقر إلى الإحساس بالقوة والقدرة على المجابهة الذي يمدّ الحياة بنوع من العنفوان ويدفع إلى الاحترام والمجابهة….إلخ)

.

لو أسقطنا هذا المقطع على شخصيةوالتلرأيناه ينطبقُ عليه.! “والت“..مدرّس الكيمياء الودود المسكين الذي يشعر بالضعف إزاء متطلباتالحياة ليؤمّن له ولأسرته حياةً كريمة فيضطر للعمل في مغسلة سيارات حتى يستطيع الوصول للحد الأدنى من الاكتفاء المالي ولكن بلافائدة.! “والتالمهمّش نسبياً من قِبل زوجتهسكايلر“. “والتالذي يشعر بالغيرة من زوج أخت زوجته المحقق الجنائيهانكعندما يبدأباستعراض بطولاته أمامه وأمام ابنه المُعاق الذي يفخر بعمههانكوبطولاته أكثر من أبيه! ….”والتالذي كان محطّ سخرية أحد طلاّبهعندما قاموالتبغسل سيارته في المغسلة التي يعمل فيها..! .”والت“.. الذي كان يسأل نفسه بضعفٍ ويأس عندما تم تشخيصه بسرطانالرئةلماذا أنا؟!” وسأل السؤال ذاته عندما استجاب مرضهُ للعلاج الكيمائي بنسبةٍ عالية.!

.

٢عقدة العار:

( عقدة العار هي التتمة الطبيعية لعقدة النقص. الإنسان المقهور يخجل من ذاته، يعيش وضعهُ كعارٍ وجودي يصعب احتماله. إنهُ في حالةدفاع دائم ضدّ افتضاح أمره، افتضاح عجزه وبؤسه. ولذلك فالسترةُ هي أحد هواجسه الأساسية(..) هاجس الفضيحة يُخيّم عليهفضيحةالعجز أو الفقر أو الشرف أو المرض“…إلخ)*..!

.

هذه الطبيعة للإنسان المقهور كذلك نجدها متمثلةً في شخصيةوالتبعد أن اكتشف مرضه. حيث لم يُخبر أحداً بذلك بادئ الأمر ثمّ لماانتشر الخبر رفض أيّصدَقةعلى حدّ تعبيره من أيّ شخص وبالخصوص ممّن أنشآ شركةً كبيرة وكان شريكاً مؤسسا معهما لها فيالماضي البعيد، ولكنهُ لأسباب خاصة انسحب منها مغبوناً وهو صفر اليدين ليعمل معلما براتبٍ لا يكفي حاجته!.

.

٣مرحلة الاضطهاد:

….

(مع بروز التيار الاضطهادي ، تكون الحالة النفسية للإنسان، قد بلغت درجةً عالية من التوتر الانفعالي والوجودي العام. يدخل في مرحلة منالغليان الداخلي للعدوانية التي كانت مقموعةً بشدة، والتي بدأت تفلت من القمع وتطفو على السطح، بعد أن كانت مرتدةً إلى الذات من خلالأوالية التبخيس الذاتي، ومايرافقها من رضوخ مازوشي. إذ إنّ كل أواليات مرحلة الرضوخ تظل عاجزةً عن التصريف الملائم للتوتر العدوانيالناشئ عن القهر. إنها لا تفي بالحاجة إلى التوازن النفسي الضروري لأنّ الإنسان لا يمكنه احتمال التبخيس الذاتي بشكلٍ دائم. لابدّ لهمن الإحساس بشيءٍ من العزة والكرامة، بشيءٍ من الاعتبار الذاتي في نظر نفسه ونظر الآخرينإلخ)*

.

نستطيع أن نقول أن مرضوالتالخبيث هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير! إذ ألا تكفي كل صعوبات الحياة التي يمرّ بها حتى يهويعليه خبر مرضه كالصاعقة ليقع فريسةً لليأس؟!. اليأس الذي يدفعهُ لمحاولة الحفاظ على القيمة العليا لديه وهيالعائلةبأيّ وسيلةٍ كانتحتى لو كانت هذه الوسيلة غير شرعية كالانخراط في تجارة المخدراتالميثاميفتامينعلى وجه الخصوص، وحتى إن عبّد الدرب إلى تلكالقيمة السامية بعشرات الجثث!

.

ولكن هل فعلاً انخراطهُ في هذا العمل فقط لأجلالعائلةوتوفير الحماية المالية لها بعد موته؟! أم أنّ هناك سببٌ آخر يدفعهُ لمثل هذاالتمرّدالسافر؟!!

ربما نجد بعض الإجابة في الآتي :

٣مرحلة التمرد و المجابهة:

(يمدّ العنف في مجابهة المتسلّط بنوع من الإحساس بالقوة، التي تُصبح رمز الحياة. المهمة الأساسية، أو المرحلة الحاسمة في هذه المجابهةهي في التغلب على خوف الموت!.)..إلخ*

.

والتعندما أصبحهايزنبيرغالذي تحتاجهُ عصابات المخدرات لطبخالميثالأزرق النقي الفريد من نوعه، صار يغريهُ الشعور بالقوةوالسلطة التي تعوّض عليه كل سنوات التحقير و التبخيس لذاته من نفسه ومن الآخرين.! عندما انخرط في هذا المجال كان من أجلالعائلةلكنه تحوّل بعد ذلك إلى السبب الجوهري الذي دفعه للاستمرار فيه، وهو لأجلذاتهالضائعة التي وجدها ولمس قوتها وجبروتها في هذهاللعبة الشيطانية.! وقد قالها صراحةً لزوجتهسكايلرفي الحلقة الأخيرة من الموسم الخامس والأخير.! ولكن المشاهد المتتبع للتصاعدالنفسي لهايزنبيرغيتلمّس ذلك الانحراف في الغاية مع تصاعد الحبكة. ولذلك يرفضهايزنبيرغخمسة ملايين دولار من قِبل احدىالعصابات لبيع مادة (الميثلامين) وانسحابه من السوق مجيباً مساعدهُ وشريكهجيسي بينكمانالذي يحاول إقناعه بقبول العرض بقوله : ( جيسيسألتني إن كنت أعمل في صناعة المخدرات أم جني المال …. ولا واحدأنا أعمل في مجال بناء (“امبراطورية“)!

وهذه الامبراطورية هي التي تمنحه الشعور بالاعتزاز والسلطة من العمق!

.

هل هذا كافٍ لأن يشعر بكرامة ذاته وسلطته القوية من العمق ؟!

لاكان لابدّ أن يكون هناك من ضحية يُحافظ عليها ويبقيها معه دائماً لتصريف كلّ حنقهِ وغضبه وفشله الذاتي عليه، وهو شريكهجيسي“. ذلك الطالبالفاشلكما كان ينعتهُ دائماً بهذا وأكثر حتى انفجرجيسيغاضباً وفرّغ كلّ غضبه عليه في عدة مشاجرات.

.

يقول الدكتور مصطفى حجازي في فصل (التماهي بالمتسلط) في ذات الكتاب:

(يتخلّص الإنسان المقهور من مأزقه من خلال قلب الأدوار. يلعبُ دور القوي المعتدي ويُسقط كلّ ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه. (..) من خلال التماهي بالمعتدي يستعيد الإنسان المقهور بعض اعتباره الذاتي، أو على وجه الدقة يصل إلى شيءٍ من وهم الاعتبار الذاتي. كما أنهُ يتمكّن من خلال هذه الأوالية من تصريف عدوانيته المتراكمة والتي كانت تتوجه إلى ذاته، فتنخرُ كيانهُ وتُحطم وجوده..)* إلخ

ولذلك عندما كان يتعامل مع أحد تجّار المخدرات (غوستافو فرينغ) وأبدل هذا الأخيرجيسيبشخصٍ آخر تقريباً في مستوى ذكاء (والت) كمساعدٍ له، لم يُعجبوالتهذا لأنه قد سُدَّ في وجهه قناة تصريف ضعفه الذاتي وغضبه من نفسه، فهو يريد شخص ك(جيسي) أقل منهذكاء واستيعاباً ليعطيه المجال لفتح قناة التصريف الذاتية هذه عليه بجانب محبته الصادقة التي يُكنهاوالتله من العمق!

.

ختاماً أودّ أن أشير إلى أنّ الإضاءة في أغلب اللقطات المركّزة على وجوه الشخصيات في غالبها كانت تضيء نصف الوجه ، والوجه الآخريغوص في الظلال أو العتمة! وكأنّ المخرج بهذه اللعبةاللونيةإن صحّ التعبير يُريد التعبير مجازياً عن الصراع الأزلي لغريزتي الخيروالشر في ذات الإنسان. فتأمّل يا رعاك الله..!!

.

انتهى

.

هامش:

*التقطتُ الرسمة الجدارية لهايزنبيرغفي مقهىحكاية قهوةالكائن ببلدتناالمركزالأحسائية.

.

#حرفي

‏#braking_bad

#تصويري

#حكاية_قهوة

#المركز

رحلةٌ في عالم الكتب

(أبرز محطاتي في عالم القراءة حتى لحظة كتابة النص عام 2020)

.

أنا مدينٌ للشعر بحياتي مرةً…..و للكتب مرتين..!!

.

كنتُ أغرق، ويدي ممدودةٌ عالياً مثل صاريةٍ في الريح، في انتظار أيّ عابر سبيلٍ ينقذني من هذا الغرق!

فكان الشعرُ..!!

جاءني مثل ملاكٍ هاربٍ من الجنة، حملني بجناحيه النورانيين إلى شاطئ الجَمال!

أهداني شعلةبروميثيوسوقال لي:

أغمض عينيك ،وانظر بقلبك، واصغِ لحدسك، واصبر! فالطريق طويلةٌ وشاقة، وكلّما ظمئتَ ، اغرف من نهر الكتب اللامتناهي!

.

وهكذا فعلت!!

.

فقادني حدسي إلى أولى محطات الكشف: (شبكة هجر الثقافية)، و (جهة الشعر)!!

حدّقتُ بقلبي فيهما، وعبرتهما بصمتٍ وتأملٍ كبيرين!

كانت(شبكة هجر) بستاناً للنخيل الأدبية الهجرية السامقة والأصيلة، وكانت (جهة الشعر) التي أشرف عليهاقاسم حداد، الجهةَ المنفتحةعلى التجارب الشعرية الكونية، ناهيك عن تجربته الذاتية الموزعة في دواوينه في تلك الجهة!!

.

شعرتُ بالظمأ، فتذكرتُ نصيحة الشعر، وقادني حدسي إلى (كائنٍ لا تُحتمل خفته) لكونديراعبرَ نقاشٍ أدبيٍ عابرٍ لبعض الأدباء فيشبكة هجرإذ كانت حينها آخر روايةٍ يُصدرها، وأولُ روايةٍ أقرؤها له! ولربما لهذا السبب صار الروائيّ الأقرب إلى قلبي!!

.

أصغيتُ لنداءٍ ما في الوهجِ الشفيف من بعيد هاتفاً : (الظل….الظل….أيها العابرُ….الظل..!! ابحث عن اسم (فاطمة الوهيبي) واقطف ثمرةالظل الناضجة منها واعصرها في مخيلتك ، تبقى سكراناً بالظلإلى الأبد!!)

.

وهكذا فعلت!!

.

فقادني كتابُ (الظلأساطيرهُ وامتداداته المعرفية والإبداعية) إلى ظلّ (صادق هدايت) الممسوخ إلى بومةٍ عمياء!!

فأصابني مسٌ من الجنون الساحر، ورأيتُ أنثىهدايتالأثيرية تسبحُ في عينيّ الأثيريتين، وطارت(البومة العمياء) من الرواية وحطّت علىكتفي، ومازالت كلما ادلهمَّ المكانُ من حولي أضاءتهُ بعينيها المرعبتين!!

.

وفي الطريق شعرتُ بأن (الشعور) وحدهُ لا يكفي!! وبأنني أحتاج إلى قوةٍ أسمى تعينني في المضيّ في هذا الطريق الشائك!

فصادفتُ رجلاً يعتمرُ قبعةً ذكرتني بقبعة (الجواهري) وقال لي:

( أعرّفك بنفسي، أنا من بلاد (الجواهري) من بلاد الرافدين، واسمي (علي الوردي) ، خذ (خوارق اللاشعور ) هذا بقوةٍ واقرأهُ مرتين ، فقراءةٌواحدةٌ له لا تكفي)!

.

وهكذا فعلت!

.

اختلطَ عليّ الواقعُ بجنون الأحلام، وبتُ لا أميّزني وصرتُ أخِف وأشف حدّ الاختفاء!!

فمدّ يدهُ لي من الغيب( إيريك فروم) وأهداني سِفرهُ الخالد (اللغة المنسية)، لأنسى بين دفتيه من أنا، وأولدُ من جديد!!

..

الطريقُ طويلٌطويلٌطويلٌ….ومن فرط التحديق في الطريقِ كدتُ أُصابُ بالعمى!!

فأنقذني ساراماجو بروايته (العمى)، فتذكرتُ وصية الشعر لي (أغمض عينيك …..وانظر بقلبك)!!

.

وهكذا فعلت!!

.

سمعتُ ضجةً صاخبةً في البعيد، كأنها أصوات حيوانات مذعورة، صهيل خيول، نهيق حمير، خنخنة خنازير غاضبةٍ وأصوات بشر!!

فاتبعتُ حدسي وقادتني الخُطى إلى (مزرعة الحيوان)، وكان حارسها (جورج أورويل) قد قال لي (ادخل من هنا ، واخرج من أي بابولاتكن كباقي البشر..!)

.

وهكذا فعلت!!

.

خرجتُ من المزرعةِ وأنا مشمئزٌ من نفسي و أنهش في جلدي مثل مدمن!!

فصادفتُ في الطريق رجلاً ذا طلّةٍ نورانيةٍ بهية، سيماهُ سيماء الأولياء الصالحين، وضع يدهُ على صدري وتمتم بصوتٍ خافتٍ بكلماتٍ لمأتبيّنها، ولكنها أزالت الوحشة عني وأحيتني من جديد!!

فسألتهُ مأخوذاً بحبٍ قدسيٍ اختلج في بدني كلّه: (بالله عليكَ من أنت..؟!) فأجابني: (أنا محيي الدين ابن عربي….اقرأ عني قبل أن تقرأ لي،ودونَك كتاب (هكذا تكلّم ابن عربي) لنصر حامد أبو زيدفهو يكفيك !!)

.

وهكذا فعلت!!

.

وفي الطريق رأيتُ رجلاً يهذي وكأنّ بهِ مسٌ من عفاريت!! فسألتهُ: (هل أنتَ صوفيٌ قادمٌ من عالمالشطح“…؟! فقال لي:…لا ..لاأيهاالجاهل ألا تعرفني؟! أناالسورياليأندريه بريتون!! ودونك كتاب (الصوفية و السوريالية) ل (أدونيس) لتميز ملامحَ هذين المذهبين عنبعضهما !!)

.

وهكذا فعلت!!

.

أكملتُ المسير، ودخلتُ في عالمٍ رماديٍ كثيف الضباب، اصطدمَت قدمايَ بشخصٍ جالسٍ لم أتبينهُ في طريقي، فصاحَ بي: (أيها الأحمق ألاترى أمامك..؟!!) فقلت له: (المعذرةالمعذرةفالضبابُ كثيفٌوالرمادي يكاد يبتلعني..!!)

فتأوه تأوهاً كدتُ أنصهرُ في حرارته وقال(لا عليك..فمن الذي يستطيع أن يرى شيئاً في هذا العدم على أية حال..!!) وراح يحاولُ انتزاع حذائه بعبثيةٍ مثيرةٍ للشفقة!!

وقفتُ مأخوذاً بالنظر إليه دون أن أتجرأ على السؤال عن اسمه، فرفع رأسه إليّ وحدّق فيّ بعينين ذابلتين وصرخ في وجهي: (أما زلتَ واقفاً؟! أيها الأحمق المسكين….انفذ بجلدكَ الآنقبل أن ينتبهَ إليكَصمويل بيكيتويسجنك معنا هنا في مسرحيته الأزليةفيانتظار جودو“…. أسرع!!)

.

وهكذا فعلت!!

.

رحلتُ عنهُ وأنا أشعر بغربةٍ رهيبة ويأسٍ عظيم!

فجاءني رجلٌ غريبٌ دلتني على جهتهِ صدى ضحكتهِ الساخره قبل أن أراه، نفثَ في وجهي دخانَ سيجارته الوجودية وقال لي هازئاً بغربتي وتعبي (كل هذا عبث….كل هذا عبث..!!) وأهداني رواية (الغريب) بتوقيع (كامو) ورحلَ عني وصدى ضحكاته يجلجلُ في الآفاق!!

.

خرجتُ من هذا العالم بشقّ الأنفس بعد أن دلّني (نيكوس كزانتزاكيس) على طريق الخروج بدليلهِ ( تصوفمنقذو الآلهة) وقال لي (امضِ في عالم الرؤى، تأمل ولا تجزع إن لم تستطع التعبير بالكلمات عما تراه، فأنا منذ الأزل وأنا أتسائل : (كيف لي أن أحاصر هذه الرؤيا الرهيبةبالكلمات)*..؟!!)

.

وهكذا فعلت!!

.

قلتُ في نفسي: ( كلّ ما أريدهُ الآن هو أن أعود إلى فطرتي)!!

فسقط عليّ من السماء كتاب (دين الفطرة) ل (روسو) وسمعتُ صوتاً نقياً خالصاً يقول لي (تحرّر من قيودك، وعد إلى ذاتك تجدْ ضالّتك !)

.

وهكذا فعلت!!

.

ورحتُ أجدّ في المسيرِ من جديد، حتى شعرتُ بذئب الشهوة الفطري يزداد عواوؤه في الجسد الغض، خشيتُ على روحي منه، فخرج لي رجلٌقليلُ الكلام، له نظرةٌ ماكرة، لا يبدو أنه متديّنٌ ولكن في وجهه لحية المتدينين، وفي مشيته وقارُ العارفين !! أومأَ لي برأسهِ محيياً ويداهُمتصافحتان تحت شدقه: (اسميأوشووأتيتُ لأقول لك : تقبّل جسدك لتتحرّر منهُ، هذه هي الطريقة الوحيدة ولا سبيل غيرها!! ودونكَكتابي هذامن الجنس إلى أعلى مراحل الوعياقرأه بتجرّد، وتأمّل في القولودعِ القائل!!)

.

وهكذا فعلت!!

.

أردتُ أن أكتبَ نصاً شعرياً في طريقي لأتخفف من رؤاي التي تكاد تنفجرُ في ذاكرتي مثل حبّات الفشار!

فأوقفني رجلٌ أعمى العينين، بصيرَ القلب، وقال لي: ( أنابورخيسرسولُ الشعر إليك، جئتُ لأذكرك بنصيحة الشعرأغمض عينيكوانظربقلبك“..!!) وخذ كتابي هذا (صنعة الشعر) لعلهُ يعينكَ على ذلك !)

.

وهكذا فعلت!!

.

مررتُ على قريةٍ من سراب، لها موقعها الخاص في عالم (الواقعية السحرية) ،يقطنها أشباح موتى، وتضجّ فيها أصوات بشرٍ مذعورين!!

أصختُ السمع فسمعتُ أحدهم يستغيثُ في غرفةٍ مهجورة : (اتركوا لي على الأقل حق تخبط الساقين الذي يتمتع به المحكومون بالشنق !)*

صادفتُ فيها رجلاً على ظهر حمارٍ تقشعرُ من ملامحه الأبدان، فسألني: ( هل أنتَ ابنبيدرو باراموكذلك؟!)

فلم أُجبه!

وقال لي (ربما أنتَ كذلك فقبلك جاء الكثيرون إلىكومالاممن يدعون أنهم من أبناءه، ولكني أنصحك يا صاح ،أن تخرج من هذه القريةالملعونة ولا تعد إليها ثانيةً كما فعل المجنونماركيزمن قبل ، فخرج ممسوساً بعفاريتها التي أطلقها في قريتهماكوندولاحقاً في روايتهمائة عام من العزلة“!!

وإن عدتَ فلن يغفر لك (خوان رولفو) هذه المرة أبداً !)

.

وهكذا فعلت!!

.

شعرتُ بالجوع يقطّعُ أحشائي، فجاءني رجلٌ لا يكاد يستطيع الوقوفَ على قدميه، يجرّ خطواته جراً ورائه، ذابلاً، ممسكاً ببطنه من شدةالجوع ، مدّ لي بيده المرتعشة كتاباً وقال لي بحشرجةٍ مسنونةٍ كنصلٍ حاد:

( خذ رواية (الجوع) الملعونة هذه ومزقها ورقةً ورقة، وحاول أن تبتلعها لتسدّ به جوعك! فهي الطريقة المُثلى التي وهبني إياها المجنونكنوتهامسونلأسدّ به جوعي في روايتهِ هذهِ التي خلقني فيها!!

كُلها، فلربما إذا أكلتَها تحررتُ أنا من لعنةالجوعالتي لاحقتني حتى وأنا في المهجر !)

.

وهكذا فعلت!!

.

أنقذنيكولن ولسونمن شرَك الإنتماء إلى الطريق والطريقة، وأهداني في سِفره الخالد (اللامنتمي) محطاتٍلامنتميةوقال : (حاول أنتجد في كلّ محطةٍ من هذه المحطات بعضاً من ذاتك، ولا تتعجل النتيجة، فقد ينقضي العمر ُولا تصل إلى كمال الصورة!!)

.

وهكذا فعلت!!

.

وأنا في بحثي عن ذاتي ، خرج لي شابٌ من خلف أحدِ الأسوار، تظهرُ عليه سماتُ المثقفينَ الواعين، ولكنهُ يرتعشُ ارتعاش القتلة!! فقال ليبصوتٍ متهدّج:

(أناراسكولينكوف، أتوسلُ إليك أن تخرجني من عالمالجريمة و العقابهذا الذي حشرني فيه ذلكالمصروعدوستويفسكي !

خذني معك أرجوكخذني..!!)

فتخلّصتُ منهُ بصعوبةٍ وفررتُ بعيداً عنهُ فراري من المجذوم!

.

فتلقفنيهنري باربوسفيالجحيموقال لي: (فلتهدأ قليلاً الآن، ولترح قدميكَ، فلن تنتهي من هذه الرواية ولن تنتهي هيَ منكَ أبداً !

فلا تحاول الهرب واحترق على نارٍ هادئة لتنضج..!)

.

وهكذا فعلت..!!

.

.

#حرفي

#عدنان_المناوس

#مكتبتي

 

بيدٍ مرتعشةْ
أمسكُ اسمي خنجراً
تلمعُ فيه شهوةُ القتلِ
وأمضي..
في دروبٍ موحشةْ
أتقفّى داخلي
خطوَ آبائيَ في هذا الجحيم الهائلِ
أتهجّى إرثهم
هذا الذي أحلمُ أن أرفعهُ عن كاهلي
بجنونٍ قاتلِ..!
ربّما أُنجبُ نفسي
من جديدٍ دون أبْ ..
ربّما ألقي بروحي في المهبْ..!

#عدنان_المناوس

القصيدة

“تبدأ القصيدةُ من غصةٍ في الحلق.”

#روبرت_فروست.
..

منذ يومين، وأنا أتغرغرُ بالقصيدة كمن يوشك على الموت، لا أستطيع دفعها من حنجرتي إلى خارج جسدي الضئيل… ولا أن أبتلعها…فالوجع أكبر من ذلك كلّه..!!
.
.
منذ يومين…و القصيدة تجرّحُ حنجرتي…يسألني من يحادثني مابه صوتك..؟! فأكذب عليه بأنّ السبب يكمن في أني لم أحدّث أحداً منذ أن استيقظتُ من النوم…..و أنا أخشى أن تفضحني حشرجتي بالقصيدة….فالوجع أكبر من ذلك كلّه..!!
.
.
أحمل بباطن كفّي قرصاً صغيرا من تلك الأقراص التي تهدّئ دقّ مطارق الجنون في رأسي….أحدّق فيها كصائغٍ يحدق في جوهرةٍ ثمينة….وقبل أن أبتلعها.. تُسقطها على الأرض رعشةُ رعبٍ تسري في كفّي….وأنا أسمع قهقهات جنّ القصيدة التي أكاد أختنق بها…قهقهاتٌ تدفعني لجنونٍ أكبر من أن يهدّئهُ هذا القرص الصغير…فالوجع أكبرُ من ذلك كله…!!
.
.
أخرج من المنزل…قاصداً المقاهي..علّني أرشو القصيدةَ بخمرة المتصوفة السوداء…ولكنني أعود إليه خائباً …أجرجر روحي التي أنهكها الركضُ خلف آثار ذلك الشيطان اللعين…شيطانُ القصيدة التي أغص بها الآن….آهِ يا صاحبي….الوجعُ أكبر من ذلك كله…!!
.
.
أملأ حوض الإستحمام بالماء الدافئ…أذوّبُ فيه قِطعاً من الملح البحريّ…وأغطسُ فيه دقائق تعادل عمراً كاملاً أقضيه في سكينة الجنة…أغطسُ مغمض العينين…حالماً على وقع موسيقى الإسترخاء..أن أقفز من أعماق جنوني ..وأركض للعالم عارياً صارخاً في وجهه بكل ما تتّقدُ به خلاياي من بهجة الخلاص…لقد ..(وجدتها)…! ولكنّ الوجع أكبر من ذلك كله..!!
.
.
ترقصُ روحي منتشيةً بالقراءة في مدار حلقةٍ من الكتب العظيمة، تمدّ شياطينُ الكتّاب أعناقها من أغلفة الكتب مثل زرافاتٍ وتصيح في وجهي :
..أيها المسكين..لا تطلب حلاًّ ولا تأمل بخلاص…فكلّ هذه الكتب كانت محاولةً عبثيةً لاحتواء كلّ هذا الوجع الذي تشعرُ به الآن….ولكن هيهات…فالوجعُ أكبرُ من ذلك كلّه..!!
.
.
.
#حرفي
#عدنان_المناوس

“إيقاع”

.

فجأةًتجدُ نفسكَ واقفاً تحت ظلّ شجرةيخطفكَ إيقاعٌ بالكاد تسمعهقادماً من البعيد..!

لا تعرفُ كيف قادتكَ قدماكَ إلى هنافي النصفِ منسبتمبر“… حيثُ الحساسيةُ فيهِ تجرشُ أنفكَ حتى الدماغ..!

جُلّ ما تتذكرهُ تلويحةُ الطفلة الخاطفةِ لكَ ورأسُها يِطلّ من نافذةِ السيّارةِ التي عبرَت بجانبك قبل دقائق….لتستمتعَ بنسيم الخريف وهويداعبُ شعرهاوربما هي مثلكَكانت تُحاولُ أن تُصغي إلى إيقاعٍ قادمٍ من البعيد..!

.

يتحسّسُ لسانُك نكهةَ القهوة الأخيرة التي لم ترغب أن يزيلها قليلٌ من الماء لتروي ظمأك…..وأنت تحاول أن تقبضَ على الإيقاع..!

.

تُفكّرربما الإيقاعهو الماضي الذي يحاول أن يفرّ من قبضة الزمن العتيدمن شقوق ذاكرتكَ الهشة..!

أو ربما هو الحلم…!

الحلمُ الذي يكونكَ وتكونه..! بلا انفصالٍ واقعيٍ يُغرّر بك بأقنعته الكثيرة..!

.

يزداد الإيقاعُ وضوحاً…. وأنت تتأملُ كناسكٍ أوراقَ الشجرة المدلاّةِ من الغصون كفتياتالواق واقالفاتنات..!

فجأةً ….تتمتمُ شفتاكَ بأغنيةِ (سامْري) لا تدري من أين تسرّبت ….من الذاكرة أم من هذه الشجرة لفرط التوحّد..، فتُغنّيها بهمسٍ دافئوالغصون جوقةٌ راقصة :

( يا جرّ قلبٍ جرّ لدنَ الغصونِ

وغصون سدرٍ جرّها السيل جرّا

وأهلهْ منِ أوّل بالورق يورقوني

على غديرٍ تحته الماي قرّا)*..!

.

يتسارعُ الإيقاعفتنخطفُ في فضاءٍ لا متناهيتنخطفُ وأنت لا تعرف..!

تفكّرُ.. لكنك لا تعرفتُحملقُ ولا تعرفتتسائلُ ولا تعرفتغنّي ولا تعرف.. ترقصُ ولا تعرفتنتشي ولا تعرفيخطفكَ الإيقاعُالبعيد..ولا تعرفتخطفكَ تلويحةُ الطفلة ولا تعرف..تخطفك نكهةُ القهوة الأخيرةولا تعرفيزداد الإيقاع وضوحاً ولا تعرف..يزدادالإيقاع..ولا تعرف..يزدادولا تعرف..تحت شجرةٍولا تعرف…. فجأةًولا تعرففي النصف من سبتمبرولا تعرفتصحو من السكرةِ كالعائد من نشوة الجنس الخاطفة فجأةً…..ولا تعرف..!!

.

عدنان المناوس

.

الصدفة..!

الصدفة..!

.

.

أنا مدينٌ للصدفة

مدينٌ لها لأجلِ كلّ ما تغرسهُ في قلبيورداً كان أو خنجر..!

.

أنا مدين للصدفة

الصدفةُ التي تصطادني من دون كل الخلق

من ثقوب أبراج الغيب السماوي

كما يصيد قنّاصٌ ماهرٌ ضحيتهُ التي تركضُ

مثل أرنبٍ مذعورٍ في غابة الزمن..!

.

للصدفة في داخلي….

هديرٌ سماويٌ يعلو ويهبط مثل نوارس لا يغدر بها البحر

ولا تخونها الريح…!

.

أنا مدين للصدفة

الصدفة التي قادت خطاي إلى مقهىً ناءٍ في نهاية طريق موحش

تعمل فيه سيدةٌ صموتةٌ

و عيناها العسليتان الغاويتان

تضجان بالكلام..!

.

أنا مدينٌ للصدفة التي ثقبت إطار السيارة وأنا في الطريق السريع

لأتأخر بعض الوقت عن انقلاب شاحنةٍ

كانت تسبق سيارتي بأمتار

أو ربما لأتأخر عن الوصول إلى نقطة تفتيشٍ

كان رجل المرور المناوب وقتها

سيخالفني على تظليل زجاج السيارة

ثمّ يأمرني بالرحيل من دون تبرير..!

.

أنا مدينٌ للصدفة التي أمسكت بتلابيبي

قبل أن تنزلق قدماي على قشرِ موزةٍ

مرميٍ في صالة المنزل..!

.

وأنا مدينٌ للصدفة التي راقصت روحي

على إيقاع كعبِ أنثى يهدرُ مثل غناء الكروان

تحت سماءٍ تُنبئُ بالمطر..!

.

أنا مدينٌ للصدفة التي

دلّتني على مطعم (شيك شاك..)

في آخر ليلةٍ من ليالي العسل المصفّى..!

.

وأنا مدينٌ للصدفة التي أورثتني

لعنةُ الشِعر المقدّس

وأنبتت لي جناحين أحلّق بهما في عالمٍ

غير هذا العالم

عالمٌ ليس فيه إلا الجَمال الذي

ينقذني من التلوث بقبحِ هذا العالم الآسن..!

.

أنا مدينٌ للصدفة ….

الصدفةُ التي حرّضتني الآن على هذه الكتابة العابرة

….مثل العصفور الذي حطّ على نافذةِ مكتبتي الآن…. وطار..!!

.

.

#عدنان_المناوس