(أبرز محطاتي في عالم القراءة حتى لحظة كتابة النص عام 2020)
.
أنا مدينٌ للشعر بحياتي مرةً…..و للكتب مرتين..!!
.
كنتُ أغرق، ويدي ممدودةٌ عالياً مثل صاريةٍ في الريح، في انتظار أيّ عابر سبيلٍ ينقذني من هذا الغرق!
فكان الشعرُ..!!
جاءني مثل ملاكٍ هاربٍ من الجنة، حملني بجناحيه النورانيين إلى شاطئ الجَمال!
أهداني شعلة “بروميثيوس” وقال لي:
أغمض عينيك ،وانظر بقلبك، واصغِ لحدسك، واصبر! فالطريق طويلةٌ وشاقة، وكلّما ظمئتَ ، اغرف من نهر الكتب اللامتناهي!
.
وهكذا فعلت!!
.
فقادني حدسي إلى أولى محطات الكشف: (شبكة هجر الثقافية)، و (جهة الشعر)!!
حدّقتُ بقلبي فيهما، وعبرتهما بصمتٍ وتأملٍ كبيرين!
كانت(شبكة هجر) بستاناً للنخيل الأدبية الهجرية السامقة والأصيلة، وكانت (جهة الشعر) التي أشرف عليها “قاسم حداد“، الجهةَ المنفتحةعلى التجارب الشعرية الكونية، ناهيك عن تجربته الذاتية الموزعة في دواوينه في تلك الجهة!!
.
شعرتُ بالظمأ، فتذكرتُ نصيحة الشعر، وقادني حدسي إلى (كائنٍ لا تُحتمل خفته) ل “كونديرا” عبرَ نقاشٍ أدبيٍ عابرٍ لبعض الأدباء في“شبكة هجر” إذ كانت حينها آخر روايةٍ يُصدرها، وأولُ روايةٍ أقرؤها له! ولربما لهذا السبب صار الروائيّ الأقرب إلى قلبي!!
.
أصغيتُ لنداءٍ ما في الوهجِ الشفيف من بعيد هاتفاً : (الظل….الظل….أيها العابرُ….الظل..!! ابحث عن اسم (فاطمة الوهيبي) واقطف ثمرةالظل الناضجة منها واعصرها في مخيلتك ، تبقى سكراناً ب“الظل“إلى الأبد!!)
.
وهكذا فعلت!!
.
فقادني كتابُ (الظل…أساطيرهُ وامتداداته المعرفية والإبداعية) إلى ظلّ (صادق هدايت) الممسوخ إلى بومةٍ عمياء!!
فأصابني مسٌ من الجنون الساحر، ورأيتُ أنثى “هدايت” الأثيرية تسبحُ في عينيّ الأثيريتين، وطارت(البومة العمياء) من الرواية وحطّت علىكتفي، ومازالت كلما ادلهمَّ المكانُ من حولي أضاءتهُ بعينيها المرعبتين!!
.
وفي الطريق شعرتُ بأن (الشعور) وحدهُ لا يكفي!! وبأنني أحتاج إلى قوةٍ أسمى تعينني في المضيّ في هذا الطريق الشائك!
فصادفتُ رجلاً يعتمرُ قبعةً ذكرتني بقبعة (الجواهري) وقال لي:
( أعرّفك بنفسي، أنا من بلاد (الجواهري) من بلاد الرافدين، واسمي (علي الوردي) ، خذ (خوارق اللاشعور ) هذا بقوةٍ واقرأهُ مرتين ، فقراءةٌواحدةٌ له لا تكفي)!
.
وهكذا فعلت!
.
اختلطَ عليّ الواقعُ بجنون الأحلام، وبتُ لا أميّزني وصرتُ أخِف وأشف حدّ الاختفاء!!
فمدّ يدهُ لي من الغيب( إيريك فروم) وأهداني سِفرهُ الخالد (اللغة المنسية)، لأنسى بين دفتيه من أنا، وأولدُ من جديد!!
..
الطريقُ طويلٌ…طويلٌ…طويلٌ….ومن فرط التحديق في الطريقِ كدتُ أُصابُ بالعمى!!
فأنقذني ساراماجو بروايته (العمى)، فتذكرتُ وصية الشعر لي (أغمض عينيك …..وانظر بقلبك)!!
.
وهكذا فعلت!!
.
سمعتُ ضجةً صاخبةً في البعيد، كأنها أصوات حيوانات مذعورة، صهيل خيول، نهيق حمير، خنخنة خنازير غاضبةٍ وأصوات بشر!!
فاتبعتُ حدسي وقادتني الخُطى إلى (مزرعة الحيوان)، وكان حارسها (جورج أورويل) قد قال لي (ادخل من هنا ، واخرج من أي باب…ولاتكن كباقي البشر..!)
.
وهكذا فعلت!!
.
خرجتُ من المزرعةِ وأنا مشمئزٌ من نفسي و أنهش في جلدي مثل مدمن!!
فصادفتُ في الطريق رجلاً ذا طلّةٍ نورانيةٍ بهية، سيماهُ سيماء الأولياء الصالحين، وضع يدهُ على صدري وتمتم بصوتٍ خافتٍ بكلماتٍ لمأتبيّنها، ولكنها أزالت الوحشة عني وأحيتني من جديد!!
فسألتهُ مأخوذاً بحبٍ قدسيٍ اختلج في بدني كلّه: (بالله عليكَ من أنت..؟!) فأجابني: (أنا محيي الدين ابن عربي….اقرأ عني قبل أن تقرأ لي،ودونَك كتاب (هكذا تكلّم ابن عربي) ل “نصر حامد أبو زيد” فهو يكفيك !!)
.
وهكذا فعلت!!
.
وفي الطريق رأيتُ رجلاً يهذي وكأنّ بهِ مسٌ من عفاريت!! فسألتهُ: (هل أنتَ صوفيٌ قادمٌ من عالم“الشطح“…؟! فقال لي:…لا ..لا…أيهاالجاهل ألا تعرفني…؟! أنا “السوريالي” أندريه بريتون!! ودونك كتاب (الصوفية و السوريالية) ل (أدونيس) لتميز ملامحَ هذين المذهبين عنبعضهما !!)
.
وهكذا فعلت!!
.
أكملتُ المسير، ودخلتُ في عالمٍ رماديٍ كثيف الضباب، اصطدمَت قدمايَ بشخصٍ جالسٍ لم أتبينهُ في طريقي، فصاحَ بي: (أيها الأحمق ألاترى أمامك..؟!!) فقلت له: (المعذرة …المعذرة…فالضبابُ كثيفٌ…والرمادي يكاد يبتلعني..!!)
فتأوه تأوهاً كدتُ أنصهرُ في حرارته وقال: (لا عليك..فمن الذي يستطيع أن يرى شيئاً في هذا العدم على أية حال..!!) وراح يحاولُ انتزاع حذائه بعبثيةٍ مثيرةٍ للشفقة!!
وقفتُ مأخوذاً بالنظر إليه دون أن أتجرأ على السؤال عن اسمه، فرفع رأسه إليّ وحدّق فيّ بعينين ذابلتين وصرخ في وجهي: (أما زلتَ واقفاً…؟! أيها الأحمق المسكين….انفذ بجلدكَ الآن …قبل أن ينتبهَ إليكَ ” صمويل بيكيت” ويسجنك معنا هنا في مسرحيته الأزلية “فيانتظار جودو“…. أسرع!!)
.
وهكذا فعلت!!
.
رحلتُ عنهُ وأنا أشعر بغربةٍ رهيبة ويأسٍ عظيم!
فجاءني رجلٌ غريبٌ دلتني على جهتهِ صدى ضحكتهِ الساخره قبل أن أراه، نفثَ في وجهي دخانَ سيجارته الوجودية وقال لي هازئاً بغربتي وتعبي (كل هذا عبث….كل هذا عبث..!!) وأهداني رواية (الغريب) بتوقيع (كامو) ورحلَ عني وصدى ضحكاته يجلجلُ في الآفاق!!
.
خرجتُ من هذا العالم بشقّ الأنفس بعد أن دلّني (نيكوس كزانتزاكيس) على طريق الخروج بدليلهِ ( تصوف…منقذو الآلهة) وقال لي (امضِ في عالم الرؤى، تأمل ولا تجزع إن لم تستطع التعبير بالكلمات عما تراه، فأنا منذ الأزل وأنا أتسائل : (كيف لي أن أحاصر هذه الرؤيا الرهيبةبالكلمات)*..؟!!)
.
وهكذا فعلت!!
.
قلتُ في نفسي: ( كلّ ما أريدهُ الآن هو أن أعود إلى فطرتي)!!
فسقط عليّ من السماء كتاب (دين الفطرة) ل (روسو) وسمعتُ صوتاً نقياً خالصاً يقول لي (تحرّر من قيودك، وعد إلى ذاتك تجدْ ضالّتك !)
.
وهكذا فعلت!!
.
ورحتُ أجدّ في المسيرِ من جديد، حتى شعرتُ بذئب الشهوة الفطري يزداد عواوؤه في الجسد الغض، خشيتُ على روحي منه، فخرج لي رجلٌقليلُ الكلام، له نظرةٌ ماكرة، لا يبدو أنه متديّنٌ ولكن في وجهه لحية المتدينين، وفي مشيته وقارُ العارفين !! أومأَ لي برأسهِ محيياً ويداهُمتصافحتان تحت شدقه: (اسمي ” أوشو” وأتيتُ لأقول لك : تقبّل جسدك لتتحرّر منهُ، هذه هي الطريقة الوحيدة ولا سبيل غيرها!! ودونكَكتابي هذا “من الجنس إلى أعلى مراحل الوعي” اقرأه بتجرّد، وتأمّل في القول …ودعِ القائل!!)
.
وهكذا فعلت!!
.
أردتُ أن أكتبَ نصاً شعرياً في طريقي لأتخفف من رؤاي التي تكاد تنفجرُ في ذاكرتي مثل حبّات الفشار!
فأوقفني رجلٌ أعمى العينين، بصيرَ القلب، وقال لي: ( أنا“بورخيس“رسولُ الشعر إليك، جئتُ لأذكرك بنصيحة الشعر ” أغمض عينيك…وانظربقلبك“..!!) وخذ كتابي هذا (صنعة الشعر) لعلهُ يعينكَ على ذلك !)
.
وهكذا فعلت!!
.
مررتُ على قريةٍ من سراب، لها موقعها الخاص في عالم (الواقعية السحرية) ،يقطنها أشباح موتى، وتضجّ فيها أصوات بشرٍ مذعورين!!
أصختُ السمع فسمعتُ أحدهم يستغيثُ في غرفةٍ مهجورة : (اتركوا لي على الأقل حق تخبط الساقين الذي يتمتع به المحكومون بالشنق !)*
صادفتُ فيها رجلاً على ظهر حمارٍ تقشعرُ من ملامحه الأبدان، فسألني: ( هل أنتَ ابن “بيدرو بارامو” كذلك؟!)
فلم أُجبه!
وقال لي (ربما أنتَ كذلك فقبلك جاء الكثيرون إلى “كومالا” ممن يدعون أنهم من أبناءه، ولكني أنصحك يا صاح ،أن تخرج من هذه القريةالملعونة ولا تعد إليها ثانيةً كما فعل المجنون “ماركيز” من قبل ، فخرج ممسوساً بعفاريتها التي أطلقها في قريته “ماكوندو” لاحقاً في روايته“مائة عام من العزلة“!!
وإن عدتَ فلن يغفر لك (خوان رولفو) هذه المرة أبداً !)
.
وهكذا فعلت!!
.
شعرتُ بالجوع يقطّعُ أحشائي، فجاءني رجلٌ لا يكاد يستطيع الوقوفَ على قدميه، يجرّ خطواته جراً ورائه، ذابلاً، ممسكاً ببطنه من شدةالجوع ، مدّ لي بيده المرتعشة كتاباً وقال لي بحشرجةٍ مسنونةٍ كنصلٍ حاد:
( خذ رواية (الجوع) الملعونة هذه ومزقها ورقةً ورقة، وحاول أن تبتلعها لتسدّ به جوعك! فهي الطريقة المُثلى التي وهبني إياها المجنون “كنوتهامسون” لأسدّ به جوعي في روايتهِ هذهِ التي خلقني فيها!!
كُلها، فلربما إذا أكلتَها تحررتُ أنا من لعنة “الجوع” التي لاحقتني حتى وأنا في المهجر !)
.
وهكذا فعلت!!
.
أنقذني “كولن ولسون” من شرَك الإنتماء إلى الطريق والطريقة، وأهداني في سِفره الخالد (اللامنتمي) محطاتٍ “لامنتمية” وقال : (حاول أنتجد في كلّ محطةٍ من هذه المحطات بعضاً من ذاتك، ولا تتعجل النتيجة، فقد ينقضي العمر ُولا تصل إلى كمال الصورة!!)
.
وهكذا فعلت!!
.
وأنا في بحثي عن ذاتي ، خرج لي شابٌ من خلف أحدِ الأسوار، تظهرُ عليه سماتُ المثقفينَ الواعين، ولكنهُ يرتعشُ ارتعاش القتلة!! فقال ليبصوتٍ متهدّج:
(أنا “راسكولينكوف” ، أتوسلُ إليك أن تخرجني من عالم “الجريمة و العقاب” هذا الذي حشرني فيه ذلك “المصروع” دوستويفسكي !
خذني معك أرجوك …خذني..!!)
فتخلّصتُ منهُ بصعوبةٍ وفررتُ بعيداً عنهُ فراري من المجذوم!
.
فتلقفني “هنري باربوس” في “الجحيم” وقال لي: (فلتهدأ قليلاً الآن، ولترح قدميكَ، فلن تنتهي من هذه الرواية ولن تنتهي هيَ منكَ أبداً !
فلا تحاول الهرب واحترق على نارٍ هادئة لتنضج..!)
.
وهكذا فعلت..!!
.
.
#حرفي
#عدنان_المناوس
#مكتبتي
اترك تعليقاً