(النص المعنف)
( في نقد “ النقد المدرسي ” ومواضيع أخرى )!
.
يتضمّن كتاب ( النص المعنف ) الصادر في طبعته الأولى عن دار مدارك عام 2020 للكاتب التونسي عبدالدائم السلامي ثلاثةَ فصول توزّعت بين المئة والثمانين صفحة في كتابه . وهي معنونة كالتالي : ( ما قاله القارئ ) وفيه يتطرّق إلى مقترحات – كما يراها – أنها تصلح ( لحسن التعاطي مع لحظتنا الراهنة، منها ما اتصل بالنص الروائي ذاته من حيث قراءته، وفن إخراجه، وبلاغة جُمله )*.
وتطرق في الفصل الثاني والمعنون ب ( مالم يقله الروائي ) إلى مقالات ركّزت على ما لا يُصغي له روائيونا العرب بالتحديد في رواياتهم حيث ينصب تركيز الروائي على ماتراه العين وتُهمل ما لاتراه بالرغم من أن هذا الذي لا تراه قد يكون أكثر ثراءً للنص من الجوانب الفنية وأعمق غوراً في المضمون . وختم الكتاب بفصل ( قراءات ) والذي جمع فيه بعض قراءاته النقدية لبعض الروايات العربية .
.
في هذه المراجعة سأركّز على أمرين من هذه الأمور العديدة التي تطرّق لها الكاتب في كتابه البديع وهي أولاً تناوله للنقد الأكاديمي ومقارنته بالنقد الانطباعي و ثانياً مناقشة فكرة ( الإخراج الروائي ).
يُمهد الكاتب للقارئ في كتابه عن الرؤية النقدية التي سيبني عليها كتاباته الموزعة في الفصول الثلاثة بقوله : ( هذا الكتاب زاهدٌ في كلّ نزوع علمي . إن نزوعه ممزوجٌ بلُطفٍ عقلي … وهو اقتراحٌ ابتعد فيه عن جفاف البحوث وأرثوذكسيتها المنهجية )* أي أنّ الرؤى النقدية المطروحة في الكتاب هي رُؤى انطباعية وهي السبيل الذي ارتآه الكاتب إلى “ حب ما يقرأ “. هذه الرؤية هي انتصار للنقد الانطباعي على النقد الأكاديمي باعتبار أن النقد الانطباعي “ يُدلل ” النص بقراءته وتفكيكه عن حب غير مشروط وقراءة حرة، بينما النقد الأكاديمي “ يُعنّف ” النصَّ بتنظيراته الجاهزة التي يأتي بها الناقدُ إلى النص بُغية تشريحه وتفكيكه وتطبيق القوالب النقدية الجاهزة عليه “ قسرا “ ، حيث أنّ المنهج النقدي الأكاديمي يوجّه الناقد – بوعيٍ منه أو دون وعي – إلى ما تريدهُ هذه النظريات لا ما يريده النص والقارئ الحر !
يقول الكاتب في المقال الأول من الفصل الأول والمعنون ب ( أن نُحب ما نقرأ ) : ( وأزعمُ أنّ مايسميه الأكاديميون “ قراءةً منهجية ” < قراءة الأساتذة > هي في رأيي قراءة تعليمية، كلّ فضلها أن تدرّب الطلبة على النصوص . وهي خارج مجال التعليم، أفسَدُ قراءات الأدب لأنها تُعنّف النص، وتُحقق فيه أحلام المنهج لا أحلامه هو )*. وهي نقطة جديرة بالاهتمام ليس فقط على الصعيد الروائي بل الشعريّ والفني بشكل عام .
وهنا أرى من الجميل المقاربة بين هذه الرؤية النقدية / الروائية وبين الرؤية النقدية / الشعرية التي جاءت في كتاب ( زمن الشعر ) للشاعر الكبير أدونيس .
يقول أدونيس في فصل ( الكتابة الجديدة / النقد الجديد ) : ( يسير النقد العربي السائد ضمن اتجاهين رئيسيين : مدرسي وأيديلوجي .
…..
النقد الجديد هو في الخروج عن هذين الاتجاهين : لا يصدر عن موقف إيديلوجي مسبّق يتحكّم به، ولا عن موقفٍ مدرسيٍّ يضيق أفقه، وإنما يحاول أن يقرأ النص بذاته، ويقدم هذه القراءة بوصفها احتمالاً نقدياً – تقويمياً، من احتمالات عديدة .
..
هكذا يحاول النقد الجديد أن يكتب < نصاً ثانياً > على النص الأصلي ..)*
.
إذن رأينا كيف رجَحت كفة النقد الانطباعي على النقد الأكاديمي أو المدرسي الموجّه في كلا الحقلين ( الروائي و الشعري ) بحسب رأي عبدالدائم وأدونيس وهو الرأي الذي أميل له شخصياً كذلك في هذين الحقلين الإبداعيين وحقول فنية أخرى كالسينما .
– الإخراج الروائي :
يطرحُ الكاتب هنا فكرة جديرةً بالاهتمام وهي فكرة وجود ( المخرج الروائي ) على غرار ( المخرج السينمائي ). وهذه الفكرة قد تسدّ مكان “ المُحرّر ” الشاغر في معظم دور النشر العربية التي حتى وإن وُجد “ المحرر ” فيها فغالبا هو يؤدي وظيفةً “ ميكانية ” لا إبداعية تمشي بالتوازي مع الكاتب في خلق عملٍ إبداعي يظهر للمتلقي في أبهى حلّته مكتمل العناصر الفنية أو يكاد من ناحية الحبكة واللغة وغير ذلك من الجماليات الفنية .
يقول الكاتب : ( لا بدّ من “ فنٍّ “ متصلٍ بكتابة الرواية، يسعى بها إلى كمالها الأدبي، ويُنجز على مخطوطها قبل نشرها، ويقوم به شخصٌ ذو كفايات قرائيّة سأفصّل القول فيها لاحقاً، ويُمكن أن أسميه : المُخرج الروائي )*!
والمخرج الروائي هو بالضرورة سيكون القارئ الأول للعمل وهو موجودٌ بشكله الخفيّ وببعض مهماته بشكل أو بآخر إلا أنه كما يقول : ( يبدو لي حان الوقت لإظهار دور المُخرج عبر تحديد ملامحه ومهامّه )*.
ومن ثمّ يُفرّق هنا بين المُخرج الروائي والمحرًر الأدبي بقوله : ( فمن ملامح “ المُخرج الروائي ” أنه يختلف عن المحرّر الأدبي ( بمفهومه الجاري في استعمالنا ) وإن اشتركا في بعض المهمات . وصور هذا الاختلاف أن المُخرج الروائي يكون في تواصلٍ مباشرٍ مع كاتب الرواية دون واسطةٍ إدارية، حيث تجيئه الرواية باختيارها “ برغبةٍ من كاتبها “ ، بينما يكون المحرر الروائي موظفاً لدى مؤسسةٍ ذات اهتمام أدبي “ مثل دور النشر وغيرها ” وهي التي تفرضه على الرواية أو تفرضها عليه . يُضاف إلى ذلك أنّ المُخرج الروائي يُنجز مهمتهُ متطوعاً ومدفوعاً بعشقه الأدب، وغايته هي تحقيق متعة مخالطة النصوص الأدبية، فهو يشتغل ضمن سياق عشقيٍّ إتيقي يُرضي فيه الرواية لتُرضي قرّاءها، في حين يشتغل المحرر الأدبي على الرواية وغايته هي الاسترزاق منها حتى وإن كان مُحباً للأدب أو كاتباً له، أي يشتغل ضمن سياق تجاري حسابيّ يُرضي فيه مُشغّله .)* إلخ
.
شخصياً أؤمن بأهمية وجود “ القارئ الأول ” لكل كاتب لأنّ الكاتب مهما بلغت عظمته يحتاج لعيون أخرى تضيء له النقاط العمياء التي لم يستطع كشفها وقت كتابته أو مراجعته الذاتية للنص، ولكن ليس كل كاتب للأسف يتوفر لديه “ القارئ الأول “ ، وفي ظل ضعف العملية التحريرية التي ابتُلي بها الكاتب العربي في العديد من دور النشر، تكون فكرة ( المخرج الروائي ) هنا فكرة ناجعة وذات غنىً للكاتب والقارئ معاً في آن، للكاتب من حيث تجويد النص وتشذيبه من النواحي الفنية ليظهر النص بأبهى حلّته، وللقارئ من حيث المتعة والفائدة التي سيجنيها من قراءة هذا العمل الإبداعي الذي ظهر نتيجة اشتغال جاد ومراجعة دقيقة .
.
ختاماً، استمتعتُ كثيراً بقراءة هذا الكتاب البديع و بلغة الكاتب الأدبية الرشيقة ذات الإيقاع الجاذب التي من خلالها فتح لي آفاقاً باعثةً على التأمل في أبعادها ، وماتركيزي على هاتين الفكرتين إلا غيض من فيض مايحتويه هذا الكتاب من جمال وثراء معرفي و أدبي رفيع .
.
انتهى
.
.
#عدنان_المناوس
#النص_المعنف
#مراجعة_ الكتب
# عبدالدائم _ السلامي
# اقرأ
اترك تعليقاً