الوسم:الأدب

حفّار قبور القرية الوحيد!


((إذنْ…مالذي سوف أفعلهُ لو بقيتُ وحيداً في آخر العمر؟!))
.
لا أدري كيفَ التمعَ هذا السؤالُ فجأةً كالبرق في خاطري فأوقف الزمنَ في عينيّ لحظةً ممتدةً بامتداد الأبدية وأنا أتسامرُ مع بعض الأصدقاء في مقهى (كريسبي كريم) الكائن في البلدة المجاورة لقريتي الوادعة!
كنتُ أحدّق في قهوة أحدهم عندما تلاشتْ صورتها شيئاً فشيئاً وحلّت مكانها صورة ذلك العجوز الذي التقيتهُ ذات يوم ظهراً و شمسُ الصيف الحارقة تغسل جبينه بالعرق !
.
كان جالساً وحيداً ..مُعدماً..على مصطبةٍ في (دروازة) القرية التي كان يومياً يلتقي في ساحتها بأصدقائه الذين حملهم واحداً واحداً إلى قبورهم قبل أن يُثقل رأسهُ الفقدُ ويُصاب (بجلطةٍ) أقعدته عن حفر القبور….!
العمل الذي كان يُتقنهُ في حضرة الموت!
.
كان جالساً وحيداً…عيناه شاخصتان في الفراغ، ترى ولا ترى ..! تجاعيدُ وجههِ الكثيرة بعدد أصدقائهِ الذين كلّما رحلَ واحدٌ منهم حفرَ على وجهه أخدودَ حزنٍ تجري فيه دموعه المالحة! حتى لم يبقَ مكانٌ في وجهه لأخدود آخر..!!
.
أوقفتُ سيارتي ونزلت للسلام عليه، قبّلت رأسهُ وكأنني أقبّل أوجاعهُ واحداً واحداً، وذكرياته التي لا تشيخ مع المرحوم جدّي (عبدالله) الذي كان من أقرب الأصدقاء إليه..
صديقُ العمر والسفر والشاي والسجائر..!!

بالكاد تعرّف على ملامحي، سألني ليتأكّد…(انت عدنان يبه)..؟! جاوبته بالتأكيد، وعيناي تتفحصّان آثار الزمن المرّ على وجهه وذاكرته، وروحه التي كانت تنشر الفرح والضحك بنكاته التي كانت تقاوم تقدّم قطارَ عمره لمحطّات الكهولة…!
حتى اجتاحهُ الزمنُ بجيشه الجرّار وتركهُ قلعةً مدمّرةً، تحاول أن تحافظ على آخر حجرٍ سليمٍ فيها!
.
ودّعتهُ وحشرجةٌ مسنونةٌ كسكينةٍ حادّة تكاد تقطّع حبالي الصوتية، ودمعٌ مثقلٌ بالذكريات الطفولية معه يكاد يفيض على وجنتيّ!
.
أيقظتني من هذه الذكرى الموجعة دمعةٌ فرّت من احدى مقلتيّ مثل عصفورةٍ فرّت من قفص متآكل واستقرّت على ظهر كفّي اليُسرى…رفعتُ رأسي أتفحصُ المكان والزمان من حولي…ولا أدري كذلك كيفَ تراءى لي أنّ ملامحَ المكان والزمان تغيّرت…!
النادلُ الذي ابتسمَ في وجهي ابتسامةً شاحبة وكأنه كان يقرأ أفكاري رأيتُه وكأنه قد كبُر أربعينَ سنة في طرفة عين..! وأنا …..
كنتُ وحيداً….!!
نعم…
كنتُ وحيداً في هذا المقهى مثل ذلك الرجل العجوز…أسترجعُ ملامحَ الأصدقاء الذين كانوا هنا قبل هذه الذكرى….وقلبي يُرددُ ما قاله محمود درويش ذات فقد…:
((
إنْ أعادوا لكَ المقاهي القديمة

من يُعيدُ لك الرفاق..؟!!))
.

(كُتب النص عام 2019، وانتقل الحاج (صالح المخيدير ) إلى رحمة ربه عام 2021)

تساؤلات في حضرة “الترجمة”


 

 

الترجمة بمنظورها الواسع هي جسرٌ مهمٌ يربط بين الشعوب المختلفة وثقافاتها عن طريق نقل المعارف المختلفة بينها. وكنتيجة لذلك يؤثر هذا النقل المعرفي على الرؤية الكونية بمختلف تفرعاتها العلمية, الأيديولوجية والدينية على حضارات وثقافات الشعوب المختلفة على مستوى العقل الجمعي و الفردي على حد سواء. وأثر الفلسفة اليونانية على الفلسفة الإسلامية نتيجة الترجمات التي قام بها الكندي والفارابي وابن رشد لأفكار “أفلاطون” و “وأرسطو” كما تشير بذلك بعض الدراسات مثالٌ واحدٌ من أمثلة يصعب حصرها.  

.

أما إذا ما تطرقنا للترجمة الأدبية, فأول ما يتبادر إلى الذهن المثَل المتداول ذو الجذور الإيطالية والقائل بأن “الترجمة خائنة” وتكاد هذه العبارة تتمزق أطرافها من فرط الشد و الجذب بين المتجادلين في حضرتها بين مؤيد ومعارض وحيادي. وهذا أمرٌ شرعي مادام النص الأدبي ينبع من روح الكاتب المحملة بكل ما يختلج في لاوعيهِ من إرثٍ ثقافي خاص وذاكرة لا تخص أحدا سواه.!

 

ولكن عند قولنا أن فعل الترجمة هو فعل “خيانة” فما هو المعيار الصلب الذي يستند عليه قولنا هذا؟! ما دام النص الأصلي في الغالب غائبٌ عنّا لغة كعتبة أولى للنص, بالإضافة إلى عدم الإلمام بالإرث الثقافي والحضاري لكاتبه؟! أليس لكل لغة خصائص تميّزها عن باقي اللغات الأخرى؟! وبالتالي أليس معيارنا في هذا الحكم نابعٌ من هذه الخصائص التي نتكئ عليها في لغتنا الأم بشكلٍ لاواعي بكل ما تحمل هذه المعايير من أبعاد جمالية؟! أي أننا في الحقيقة كلما وجدنا النص المترجم يقترب من روحنا الأدبية وأبعادها الجمالية في اللغة, كلما حكمنا على الترجمة بأنها أمينةٌ للنص الأصلي بقدرٍ كبير؟! وبالتالي هل يصح لنا افتراض أنه كلما اقترب النص من ملامسة هذه الأبعاد الجمالية في لغتنا ابتعد أكثر عن النص الأصلي بكل خصائص لغته المتعددة؟! إذن هل يمكن لنا أن نعتبر هذه خيانة؟! ومن هذا الباب ألا تمثّل الترجمة كتابةً إبداعية موازية للنص الأصلي وليست مولودةً منه؟! ثم أليس من الصعوبة بمكان أصلا القبض على روح النص الأدبي مهما حاول المترجم ملاحقة النص وكاتبه مستعينا بذخيرة معرفية باللغة الأخرى وجانب لا بأس به من حياة الكاتب؟! ألا يكون هنا المترجم كمن يلاحق سرابا في بيداء لا تخوم لمتاهاتها؟!  

ثم هنالك أمرٌ آخر يقف كقاطع طريق في منتصف هذه التساؤلات, وهو كيف نفسر توجه كاتبٍ ما إلى الكتابة بغير لغته الأم؟! كما فعل ميلان كونديرا مثلا عندما كتب نصوصه بالفرنسية عوضا عن التشيكية؟! أو إليف شافاق  عندما كتبت باللغة الإنجليزية عوضا عن التركية؟! كيف يمكن لكاتب ما أن يُبدع نصا بلغة هو غير ملم بأبعادها التاريخية والحضارية مهما كان متقنا لها؟! هل يمكننا القول بأن الكاتب هنا هو المترجم ذاته للنص؟! بمعنى آخر , هل يمكننا أن نعتبر أن النص الأصلي ضائع في مهب الغياب وهذا الذي بين أيدينا هو نص مترجم لذلك النص الغائب مادام أن اللغة التي استعان بها الكاتب هي غير لغته الأم؟! أيمكننا أن نعتبر أن الكاتب هنا “خائن” كذلك؟! ثم أليس الرهان هنا هو قدرة الكاتب على الإمساك بناصية اللغة الأخرى من جذورها؟! ولكن بالرغم من كل هذه التساؤلات وجدنا أن بعض هذه النصوص التي كٌتبت بغير اللغة الأم للكاتب كانت نصوصا إبداعية وخلاقة؟! ترى ما هو السبب الجوهري وراء ذلك؟! ألا يمكن أن يكون انصهار روح الكاتب بكل أحاسيسها في أتون عشق هذه اللغة الأخرى والتماهي معها هو السبب الجوهري وراء هذا الإبداع؟! وهذا التساؤل يعيدنا إلى المترجم الآخر مرةً أخرى..هل يكفي بأن يكون مترجم النص الأدبي ملما باللغة الأخرى ميكانيكيا ليترجم لنا نصا أدبيا إبداعيا؟! ألا ينبغي على المترجم هنا ألا يترجم نصا واحدا مادام لم ينصهر في أتون عشق هذا النص وأبعاده اللغوية انصهارا كاملا؟! أي ألا يكون الرهان هنا سواء كان في الكتابة المباشرة أو الترجمة على حد سواء هو عشق اللغة بكل أبعادها الجمالية التي تساعد على إعادة تشكيل هوية عاشقها من جديد؟! ألا تكون الترجمة هنا ضرباً من التحليق في عوالم النص الهائلة بجناحين من عشقٍ ومهارة؟!  

ومن هنا يمكن أن نتفهم رفض بعض الكتّاب وخصوصا الشعراء بعض التراجم لنصوصهم كما رفض شاعر ألمانيا العظيم ريلكه خمس ترجمات فرنسية عُرضت عليه لعمله الملحمي (أغنية عشق لحامل الراية) لأنها لم تُترجم ضمن “روحه الحقيقية” كما جاء في “كتاب الساعات وقصائد أخرى” لريلكه بترجمة كاظم جهاد.

 

ولكن, بالرغم من كل هذه التساؤلات التي تنبثق في سماء الترجمة مثل شهب ثاقبة, هناك حقيقة واحدة مسلّم بها, وهي أن الترجمة لا غنى لنا عنها, فهي إن كانت خير , فهي خيرٌ مضاعف, وإن كانت شر فهي شر لابدّ منه, وإلا كيف تسنى لنا نحن القراء أن نطّلع على إرث عظيم من الأدب النابع من الحضارات المختلفة؟!

بقلم عدنان المناوس